الدولة الخليجية التي أسقطت جنسية عشرات الآلاف من مواطنيها

عربية

 

عندما سجل فيصل وصوله في مطار الكويت الدولي أواخر العام الماضي، كان رجل الأعمال الشاب معتادًا على السفر حول العالم، ويحمل واحدًا من أقوى جوازات السفر في العالم العربي، لكنه لم يستقل الطائرة أبدًا، وعندما غادر المطار، لم يكن كويتيًا.

يقول فيصل، وهو اسم مستعار، إنه احتُجز مؤقتًا قبل الصعود إلى الطائرة وتعرض جواز سفره للمصادرة، ليصبح واحدًا من حوالي 42 ألف كويتي تم تجريدهم من جنسيتهم في غضون ستة أشهر فقط.

يُعد تجريد آلاف المواطنين من جنسيتهم أحدث خطوة في سلسلة من التراجعات التي قوضت ادعاء الكويت بأنها الدولة الوحيدة ذات الملامح الديمقراطية في الخليج، الإقليم تحكمه أنظمة استبدادية.

وتقول السلطات إن الهدف هو الأشخاص الذين حصلوا على جوازاتهم بطريقة احتيالية، لكن المعارضين يصفونها بحملة تستهدف المواطنين المجنّسين لتحميلهم المسؤولية.

يقول فيصل: “جعلوني بلا جنسية بين عشية وضحاها”، مضيفًا: “كل ما أفكر فيه الآن هو الرحيل والاستقرار في دبي.. أريد أن أهرب من هنا لأن الوضع بدأ يشعرني وكأنه ديكتاتورية”.

قال الأمير الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح العام الماضي إنه لن يسمح بـ”استغلال الديمقراطية لتدمير الدولة”، بعد أن قام بتعليق البرلمان المنتخب الصاخب في البلاد وبعض مواد الدستور لمدة أربع سنوات، كما جرى تعليق الانتخابات الطلابية والاقتراعات لمجالس التعاونيات منذ ذلك الحين.

قوبل تعليق الديمقراطية بمقاومة ضئيلة محليًا أو دوليًا، مما يمثل تحولًا للكويت، التي لا تمتلك أحزابًا سياسية لكنها تتمتع بتقاليد ديمقراطية راسخة.

وتقول كريستين سميث ديوان، الباحثة البارزة في معهد دول الخليج العربية في واشنطن: “كان الكويتيون في السابق، يحتشدون للدفاع عن مؤسساتهم الديمقراطية، وكانت القوى الخارجية تتدخل لدعمهم، أما اليوم، فهم يشعرون بالخوف بسبب سحب الجنسيات، والولايات المتحدة تلتزم الصمت”.

امتلاك جنسية هو حق أساسي من حقوق الإنسان، إلا أن سميث ديوان قالت إنه لا يبدو أن هناك “رغبة دولية” للتصدي لما يحدث في الكويت.

ادعت الحملة أنها تستهدف مجرمين أجانب حصلوا على الجنسية الكويتية بشكل احتيالي للاستفادة من المزايا الاجتماعية السخية التي تقدمها الدولة لمواطنيها، وقد حظيت بمستوى دعم شعبي مماثل لما يتمتع به السياسيون المناهضون للهجرة في بعض الدول الغربية في البداية.

لكن الرأي العام في وسائل التواصل الاجتماعي الصاخبة في الكويت سرعان ما تغيّر، بعدما تبيّن أن حوالي ثلثي من جُرِّدوا من جنسيتهم كنّ نساءً تخلين عن جنسياتهن السابقة للحصول على الجنسية الكويتية بعد مرور عقد من الزمن على زواجهن قانونيًا من مواطنين كويتيين، رغم أن عددًا غير معروف منهن ربما احتفظ بجوازات سفرهن الأصلية بطرق غير قانونية.

يقول أحد النواب للحكومة، متحدثًا إلى فايننشال تايمز: “لقد تجاوزتم الخط الأحمر عندما دخلتم كل بيت في الكويت”.

نشرت الحكومة قوائم طويلة بأسماء الأشخاص الذين جُرِّدوا حديثًا من جنسيتهم أسبوعيًا وعلى مدى شهور، وكان الكويتيون يتفحصونها بقلق بحثًا عن أسمائهم أو أسماء أصدقائهم وأفراد عائلاتهم.

كما أنشأت الدولة خطًا ساخنًا للإبلاغ عن حاملي جوازات السفر الكويتية المزعوم حصولهم عليها بطرق احتيالية.

ومن بين من فقدوا جنسيتهم أيضًا أشخاص حصلوا على الجنسية الكويتية لخدماتهم الجليلة للبلاد، من بينهم الممثل الشهير داوود حسين، والمغنية الشهيرة نوال الكويتية، التي يحمل اسمها دلالة على جنسيتها.

الصورة أثرت قرارات سحب الجنسية على ما يقرب من 3% من إجمالي السكان في بلد لا يتجاوز عدد مواطنيه 1.5 مليون نسمة، ما يعني أن معظم الكويتيين يعرفون عائلة واحدة على الأقل تأثرت بالأمر، وقد دفع ذلك البعض إلى التساؤل عن هوية بلدهم كمدينة تجارية منفتحة على العالم.

يقول بدر السيف، أستاذ مساعد في جامعة الكويت: “التماسك الاجتماعي تعرض لضغط في الأشهر القليلة الماضية وإرثنا كدولة كان دائمًا يدور حول الترحيب بالناس”.

لكن الحكومة دافعت عن سياستها، وصرح وزير الداخلية الشيخ فهد اليوسف، المهندس الرئيسي لحملة إسقاط الجنسية، في أحد البرامج الحوارية الأسبوع الماضي بأن المحاولات السابقة لمعالجة القضية عرقلها البرلمان المعلق حاليًا.

وقال: “وصلنا إلى مرحلة لم يكن أمامنا فيها خيار سوى اتخاذ إجراء سريع وحاسم في ملف الجنسية”، مضيفًا: “لا يعلم إلا الله أين ستكون الكويت إذا انتظرنا أكثر من ذلك”.

وجدت بعض التراجعات الديمقراطية الأخرى مؤيدين لها، حيث يلوم كثيرون البرلمان المنقسم على عرقلة الإصلاحات الضرورية مع شعور الكثير من الكويتيين بالإحباط بسبب ركود بلادهم الغنية بالنفط، بينما يمضي جيرانها قدمًا في خطط تنموية طموحة.

الكويت ليست الدولة الخليجية الوحيدة التي قلّصت مشاريعها الديمقراطية، فالسعودية وقطر تراجعتا في السنوات الأخيرة عن تجاربهما المحدودة في الانتخابات الحرة، وكانت أنظمة الحكم الملكية في المنطقة متهمة منذ فترة طويلة بممارسة انتهاكات لحقوق الإنسان.

يقول أحد المستثمرين الكويتيين الشباب: “الديمقراطية وحرية التعبير هما الركيزة الأساسية لدينا، فهل نحن بصدد خسارتهما الآن من أجل ‘تنظيف’ البلاد؟”.

المواطنون المجنّسون هدف سهل في الكويت، فمنذ الاستقلال عام 1961، واجهت الدولة صعوبة في تحديد من يحق له أن يكون جزءًا منها، مما ترك عشرات الآلاف من القبائل البدوية داخل حدودها دون جنسية.

هناك نكتة كويتية رائجة الان تشجع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي تعهد بترحيل ملايين المهاجرين غير الشرعيين، على زيارة الكويت والتعلم من “نجاحها” في التخلص من غير المواطنين.

ويقول مسؤول حكومي سابق: “تحميل المجنّسين المسؤولية عن المشكلات هو نفس الحجة التي تسمعها في أوروبا، لكن الفارق هنا أنهم مواطنون حقيقيون، وليسوا لاجئين”.

ووفقًا لإحصائية نشرتها صحيفة الجريدة الكويتية هذا العام، بلغ إجمالي حالات سحب الجنسية 32,715، وهو رقم أكدته فايننشال تايمز عبر مقالات إخبارية رسمية، وأفادت الجريدة لاحقًا بأن 9,464 شخصًا آخرين أضيفوا إلى القائمة.

ويقول منتقدو الحكومة إنها تؤجج النزعة القومية لصرف الانتباه عن الركود الاقتصادي في الكويت، والذي يصعب إصلاحه، لأن 80% من ميزانية الدولة تذهب للرفاه الاجتماعي والقطاع العام، مما يترك القليل للاستثمار في البنية التحتية والمشاريع الكبرى.

طمأنت الحكومة في ديسمبر الماضي أولئك الذين تم تجنيسهم عبر الزواج بأن معاشاتهم التقاعدية والمزايا الأخرى ستُعاد إليهم بعد ردود الفعل الشعبية الغاضبة، ثم أصدرت لهم بطاقات مدنية تحمل في خانة الجنسية عبارة “يُعامل ككويتي”، كما يعمل مجلس الوزراء على تشكيل لجنة لتلقي التماسات من الأشخاص الذين يشعرون بأنهم جُرّدوا من جنسيتهم ظلمًا.

لكن الحملة أثارت ارتباكًا واسعًا، فالمحرومون من الجنسية لا يمكنهم امتلاك الأراضي أو أن يكونوا أصحاب أعمال رئيسيين، كما تم إبطال رخص قيادتهم، وأخبر بعض الذين فقدوا جنسيتهم فايننشال تايمز أن البنوك الكويتية قيدت وصولهم إلى أموالهم.

ونفى عصام الصقر، الرئيس التنفيذي لأكبر بنك في الكويت، بنك الكويت الوطني، أن تكون النساء اللاتي فقدن جنسيتهن قد مُنعن من الوصول إلى حساباتهن البنكية، لكنه ابلغ فايننشال تايمز أن البنك يستعد لمواجهة خسائر بسبب برنامج إسقاط الجنسية، لأن العديد من المتضررين لديهم التزامات مالية مع البنوك الكويتية، مشيرًا إلى أن هذا سيكون “سيناريو أسوأ الحالات”.

ورفض الصقر تقديم أرقام محددة، لكنه وصف المبلغ الذي خصصه البنك لتغطية القروض المتعثرة المحتملة بأنه “جزء كبير” من ميزانيته.

أبناء وأزواج المواطنين الذين أصبحوا عديمي الجنسية فقدوا جوازاتهم الكويتية، وكان هذا حال فيصل، الذي جُرّدت جنسية والده، وهو كويتي مُجنّس.

ويقول فيصل: “لم يُعطونا أي مبرر لما حدث”، مضيفًا أن الضغط النفسي وعدم اليقين تركاه في حالة اكتئاب، وهو يحاول الحصول على تصريح إقامة، لكنه قال إنه مُنع من الوصول إلى الخدمات الحكومية، وبالتالي لم يتمكن من استخراج الوثائق اللازمة لتقديم الطلب، وأضاف: “ما أشعر أنني مضطر لفعله الآن هو الرحيل”.

فايننشال تايمز البريطانية