النهارات الميتة مائدة الليل الفقير حين لا تجد الأوجاع ما تأكله، شكوى معادة، عتبٌ مكرور، مساءلات شاحبة وفراغ قاسٍ من القلب إلى كيس الطحين. النهارات مطفأة تسير، تذهب جُفاءً، تنسرب إلى بطن العتمة، تغور بعيداً عن الدرب، هشيم في كف الريح تذروه في صدر الليل بؤساً، يأساً، كآبة، طواحين قلق وعواءً موحشاً للخيبات. في الهزيع الأخير يصحو المتأخرون على وقع الحوافر ليسرجوا "ناقة السأم" -بحسب الرازحي عبدالكريم- رسائل شجن لها "رغاءٌ جوال". كتبت إليه: قبل قليل : أفلتُّ كتاب "كامو وسارتر" لـ"رونالد أرونسون" ترجمة شوقي جلال صادر عن "عالم المعرفة" يتابع صراع الأفكار التي عصفت بأوروبا خلال القرن العشرين وجدل الصداقات اللدودة ومجمل الاتجاهات الفكرية والسياسية الكبرى المؤسسة لتحولات المجتمع من خلال الميراث المعرفي والسجال النقدي لرائد الوجودية "سارتر" ورفيقه المناهض "كامو " وفيه ما لم يفقد بريقه حتى اللحظة سيما بالنسبة لنا نحن الفقراء أسرى الصراعات الضحلة حيث لا عداوات لائقة ولا أعداء مقنعين ولا تحديات خلاقة تستحق ما نهدر من طاقة الفعل والقول. وكتب إليّ: "يغريك سارتر على الانتشاء في وقت ما عادت فيه الفكرة رأس مال شخصي لأحد". رأيت صديقي في موقفه الشخصي والعام أقرب إلى "كامو " في "المتمرد" الذي يتحدى ويناضل دائماً ضد السلطة بعكس الثوري عند "سارتر" الذي عمد إلى "المقابلة بين الفرد الحر ذاتياً والمناضل المنضبط"، ثم تركيبته الجديدة التي "تقر النظام والانضباط وعدم إنكار الذاتية الخاصة". صورة المناضل الذي "يعيش تضامنه وحريته معاً". حرية الفرد عند "سارتر" ترتبط بحرية كل إنسان والعمل من أجل حرية الآخرين يستلزم الانضمام إلى نضالهم، وهنا يتركز رفض كامو الانضمام إلى صفوف نضال قائم بالفعل وهو برمته خارج السيطرة. غادر سارتر "أوهام إمكان الخلاص الشخصي إلى القبول بنظام جمعي لا ينكر حريته الخاصة" وهنا يبدأ مأزقه الكبير مع الالتزام الذي دعا إليه إذ أوقعه في كثير من التناقضات الصارخة. كتب صاحبي: "نحن شقاة سياسة في مجتمع لا مصالح كبرى فيه ولذا إما أن نتنازل عن جزء من الطموح أو نهدر إنسانيتنا". صحيح يا صاحبي الصراع هنا نوع من الاتجار غير المشروع بالحياة عموماً، هو صراع على الإنسان لا من أجله، محاولة لامتلاكه وإخضاعه والسيطرة عليه، صراع ضد الحرية تستوي في ذاك التوجهات الباسطة على الساحة. صراع تسخير، لاصراع تحرير. لكن ألا ترى إمكانية اختراع طريق ثالث نبتدع فيه ثورية جامعة تحقق "الخلاص الشخصي والعام". لا تبحث عن وجودها والاعتراف بمشروعيتها بالتنازل لهذا أو ذاك؟ ألا ترى إمكانية مغادرة هذا السوق حيث يسيطر المعلمون الكبار، "فتوات الحتة" فارضين قوانينهم وشروطهم وأخلاقياتهم الخاصة على السوق والمتسوقين؟. نحن ياصديقي أشبه بباعة صغار يطمحون لتأسيس حياة كريمة على فائض كرم قدامى المحاربين، المؤسسين الأول، آباء الفكرة والخبرة، مهمتنا أن نشتري منهم ونبيع كـ"سرّيحة" وتجار شنطة وبسطاء بسطات. نحن عمال النظافة، الحمالين ، المضاربين باليومية في سوق الخسارات حيث لا كاسب سوى الزيف . نحن يا صديقي غنم السوق وما شئت من التوابع والملحقات نخوض صراعاً رثاً على أكثر من جبهة، صراعا فقيرا لا غنى شخصي فيه ولا عام ولا انتصارً يوجب الفخر. نضال خاسر، حشد يباهي بالفقر والسواد الكثير، يحتفي بالذلول من الرقاب والأقلام والمواقف والأفكار وسواها من سلوكيات الاسترقاق. ثمة طريق آخر للنجاة بالتأكيد لا نكون فيه مجرد "رواحل" خرساء مثقلة بعفش قديم يخص الأموات. ثمة طرق أخرى للخلاص من دوامة العقم والخواء التي تحكم حياتنا مسببة كل هذا الدوار.