حين يُذكر فؤاد الحميري، لا يُذكر كشاعر فقط، ولا كخطيب فصيح، ولا كثائر من الصفوف الأولى فحسب، بل يُذكر كـ"فكرة حيّة"، سارت على الأرض، وناضلت، وكتبت، وواجهت، ثم رحلت بصمت الكبار.
لقد عرفت فؤاد معرفة الأخ في أخيه، والزميل في رفيق نضاله، فقد جمعتني به رحلة امتدت لأكثر من عشرين عامًا، تنقّلنا خلالها بين ساحات الفكرة، وميدان الحلم، ومرايا القصيدة، ومواسم الألم. سافرنا كثيرًا معًا، وتشاركنا الأفكار، وكنا من أوائل من خرجوا في وقفات احتجاجية عام 2008 أمام مجلس الوزراء، حين لم تكن الثورة "موضة"، بل مخاطرة. يومها كنا مع منظمة "هود"، و"صحفيات بلا قيود"، وغيرهما من منظمات الكلمة والموقف.
*فؤاد المناضل والسياسي* في ثورة 11 فبراير 2011، سكنا معًا – أنا وفؤاد والصديق طارق مريش – في غرفة واحدة بساحة التغيير، لأكثر من عام ونصف. من هناك أسسنا مع ثلة من القيادات الشبابية "المنسقية العليا للثورة اليمنية – شباب"، وكان فؤاد ناطقها الرسمي، وكنت أنا مديرها التنفيذي. لم يكن منصبه شكليًا، بل كان لسانها وروحها وضميرها، وواجهة إعلامية نزيهة عبّرت بصدق عن وجدان الساحات.
*فؤاد الشاعر والأديب* في القصيدة، كان فؤاد كمن يستخرج المعاني من وجع الناس، ويصوغها بحبرٍ لا يُمحى. كان شاعرًا ثوريًا من طراز نادر، يكتب للناس لا عنهم، ويهتف باسم الوطن لا باسم الذات. لم يركض خلف الجوائز، بل كان يحمل القصيدة كراية. وكل من عرفه يعرف أن قصيدته لم تكن سوى بيان ثورةٍ يُلقى في ساحة، أو رسالة عزاء في وجه الظلم.
*فؤاد الخطيب والعالم* كان خطيبًا مفوهًا، وعالمًا بالشريعة واللغة، يزن الكلمة بميزان الصدق لا الزخرف، ويستخدم منبره لنصرة المظلوم، وتنوير العقول، لا تلميع الواجهة. خطب في مساجد عدن وصنعاء وغيرها، وكان لصوته جاذبية لا تُفسر إلا بالإيمان الداخلي الذي يحمله.
*فؤاد الإنسان والوجه الخيري* لم يكن فؤاد من أولئك الذين يظهرون في المناسبات ثم يغيبون. بل كان حريصًا على العمل الخيري في الخفاء. ساعد الكثير من الطلاب والمحتاجين، وشارك في حملات الإغاثة، وسعى جاهدًا لربط العمل الثوري بالبعد الإنساني. لم تكن الثورة عنده مجرد هتاف، بل واجب يومي في دعم الضعفاء ونصرة المهمشين.
*لحظة الوداع... كما لا تُنسى* وصلت إسطنبول، وعلى وجهي غبار السفر، وفي قلبي رجفة لا أعرف كيف أصفها. وعندما وقع بصري على نعشه، ما تمالكت نفسي. بكيت كطفل فقد والده، بكيت كما لم أبكِ من قبل. لم أُصدق أن فؤاد الذي طالما ودّع الآخرين، يُودَّع اليوم على الأكتاف. وقفت عند رأسه طويلًا، وكل الذكريات تمرّ دفعة واحدة: الغرفة المشتركة، النقاشات العميقة، القصائد التي كنّا نسمعها منه أولًا، صوته حين يغضب للحق، وهدوؤه حين تنتهي المعركة.
كنت من أواخر من غادر المقبرة. لم أستطع أن أتركه وحده. وقفت حتى مشى الناس جميعًا، حتى خفّت الأقدام وسكن التراب. غادر الجميع، لكنني بقيت... ليس فقط لأن فؤاد يستحق، بل لأن شيئًا مني دُفن معه.
نم قرير العين يا فؤاد، فقد حملت لواء الكلمة في زمن الارتباك، وصنت أمانة الثورة حين تخلى عنها كُثر، وعشت كما يعيش النبلاء، ورحلت كما يرحلون... بصمتٍ، وكرامة، وخلود.
#أربعينية_فؤاد_الحميري