- عند التأمل في تجارب الشعوب الساعية للانفصال تبرز تجربة إقليم كردستان في شمال العراق كنموذج قريب من واقع المنطقة وأكثر قرباً إلى الحالة اليمنية بما تحمله من تعقيدات سياسية وجغرافية واقليمية. ولعل هذه التجربة تحمل رسالة مباشرة إلى المجلس الانتقالي في جنوب اليمن وهو يواصل الدفع باتجاه مشروع الإنفصال.
لقد حظي الأكراد في إقليم كردستان العراق منذ عام 1991م ثم بعد الاحتلال الأمريكي في 2003م بحزمة استثنائية من الامتيازات لم تتوفر لأي مكون آخر في العراق أو المنطقة. فقد امتلكوا حكماً ذاتياً فعلياً عبر حكومة وبرلمان مستقلين وقوات البيشمركة التي تعمل كجيش خاص لا يخضع لبغداد إلا شكلياً. كما تمتعوا بإدارة كاملة للثروات الطبيعية وتوقيع عقود نفطية مباشرة ونسبة ثابتة من الموازنة الاتحادية (17%) لسنوات طويلة وعلاقات خارجية واسعة وفتح ممثليات في دول عديدة مما جعل الإقليم في وضع اقتصادي وعمراني أفضل مقارنة ببقية العراق.
ومع كل هذه الامتيازات التي شكلت قاعدة صلبة يمكن أن تبنى عليها دولة مستقلة نظرياً كان السؤال الجوهري: ما الذي حدث عندما حاولوا الانفصال فعلياً؟
في سبتمبر 2017م قررت قيادة إقليم كردستان المضي في استفتاء من أجل الاستقلال متجاهلة اعتراض بغداد والعواصم الإقليمية والدولية. ورغم أن النتيجة جاءت بنسبة 93% لصالح الانفصال إلا أن المشهد انقلب فور إعلان النتائج.
اعتبرت بغداد الاستفتاء غير دستوري ورفضته بشكل قاطع واستعادت القوات العراقية محافظة كركوك والمناطق المتنازع عليها خلال أيام معدودة. فُرض حصار شامل وتم إيقاف الطيران الدولي والسيطرة على المنافذ الحدودية مما أدى إلى خنق مالي واقتصادي للإقليم. وتحت ضغط الواقع اضطر رئيس الإقليم حينها مسعود برزاني للتنحي عن الحياة السياسية وتم تجميد نتائج الاستفتاء.
كانت تلك لحظة إدراك مرة بان الاستقلال ليس قراراً محلياً خالصاً بل هو معادلة إقليمية ودولية معقدة.
أما موقف دول الجوار لإقليم كردستان العراق فقد كان أكثر حدة وتصميماً. فقد اعتبرت تركيا الخطوة تهديدا مباشرا لأمنها القومي وأغلقت الحدود وهددت بوقف تصدير نفط الإقليم. وأغلقت إيران المنافذ ودعمت تحركات الحشد الشعبي لاستعادة كركوك. وأعلنت سوريا رفضها لأي خطوة تشجع الأكراد لديها على المطالبة بالانفصال. وهكذا وجد الإقليم نفسه معزولاً تماماً بلا ظهير إقليمي أو سند دولي.
الخلاصة التي لا يمكن تجاهلها هي أنه برغم توفر أكبر هامش من الحكم الذاتي في المنطقة وقوة اقتصاده وجيشه خسر الإقليم في أيام ما بناه في عقود واضطر للعودة إلى حضن بغداد بشروط أكثر صرامة من السابق.
رسالة تحليلية الى المجلس الانتقالي الجنوبي
يا إخوتنا في المجلس الإنتقالي الجنوبي قبل أن تمضوا في طريق يعدكم بالإنفصال وقبل أن تغريكم الشعارات العاطفية أو التحالفات المؤقتة التي ستتخلى عنكم ساعة الجد لعل في تجربة كردستان العراق ما يغني عن مغامرة جديدة.
فالأكراد وهم أكثر تماسكاً وتنظيماً وامتلاكاً للمقدرات المؤسسية والعسكرية وجدوا أنفسهم أمام رفض داخلي وإقليمي ودولي حاسم. لقد تخلت عنهم القوى التي ظنوا أنها داعمة لأنها رأت في الانفصال تهديدا لخرائطها ومصالحها هي وليس لخرائط العراق وحده.
سقوط مدينة كركوك النفطية خلال أيام وإغلاق المطارات وخنق الاقتصاد ثم تجميد الاستفتاء وعودة الإقليم من حيث بدأ إن لم يكن أبعد قليلاً هو درس أوضح من أن يحتاج إلى شرح.
فالانفصال في هذه المنطقة ليس قراراً يصنعه حماس اللحظة ولا بياناً يعلن على منصة بل هو مقامرة قد يخسر اللاعب فيها كل شيء بما في ذلك ما كان يمتلكه أصلاً. الوطن مهما ضاقت مساحاته يبقى أوسع من جغرافيا الارتجال السياسي وأرحب من رهانات اللحظة ولعل قراءة التاريخ القريب تمنع من تكرار الخيبات السياسية البعيدة.
* (المصدر أونلاين)

