ليس أقسى على النفس من أن تكافأ التضحية بالنسيان، وأن يُلقى من قدموا أرواحهم وأعضاءهم رخيصة في سبيل الوطن في زاوية الإهمال.
جرحى الجيش الوطني الذين حملوا الجمهورية على أكتافهم يوم كانت تُهدد بالانهيار، يعيشون اليوم فصولا من المعاناة تندى لها جبين الإنسانية.
إن أجسادهم الممزقة تروي فصول معارك الكرامة، وعيونهم التي غاب عنها الضوء ما زالت تبصر اليمن الذي حلموا به، وإن أظلمت حولهم دروب المسؤولين، فمن بينهم من فقد أطرافا ومنهم من فقد بصره، وآخرون تركوا قلوبهم هناك في ضواحي المدن، حيث ما تزال حجارة الأرض تحفظ دماء الرفاق.
إن هؤلاء الجرحى الأبطال الذين طالهم الألم، هم شهداء مؤجلون وأبطال أحيلوا إلى النسيان، بينما تتردد التصريحات الرنانة والوعود الجوفاء كل عام، دون أن تبل جرحهم قطرة من رعاية أو تلطفه ذرة من اهتمام.
ففي كثير من المدن اليمنية، يمكن أن ترى أحدهم يسند جسده بعكاز متهالك، يبحث عن دواء أو راتب متقطع منذ أشهر، فيما تصدح الخطب في القنوات عن "الاهتمام بالجرحى"، والبعض يتسول حقه في العلاج كما يتسول آخرون لقمة الخبز، وكأن التضحية بالدم لا تمنح صاحبها حقا بالحياة الكريمة بعد المعركة.
أي عار أعظم من أن ينام الجريح على سرير الألم بينما من تخلف عن المعارك وظل خلف المكاتب يجلس اليوم على كراسي الرفاه؟ وأي خذلان أكبر من أن تغلق أبواب المستشفيات في وجه من تصدر الذود عن الوطن والدين والعرض وفتحت له أبواب الجنة؟
إن هؤلاء الجرحى الأبطال ليسوا مجرد أرقام في كشوفات منسية، بل هم تيجان الرأس ومشاعل الجمهورية، فهم الذين جعلوا من أجسادهم أسوارا تحمي المدن، ومن دمائهم جسورا تعبر عليها البلاد إلى فجر جديد، فهم الذين صمدوا حين تراجع الجميع، وآمنوا حين جحد وكفر الكثير بالوطن، وحين سقطت الرايات حملوها بأيديهم المجروحة وأعادوها ترفرف فوق التراب.
إن ما يعيشه الجرحى اليوم من تهميش وإهمال ليس مجرد خطأ إداري أو تقصير عابر، بل هو وصمة عار وطنية، لن تمحوها السنوات ولا البيانات ولا لجان التحقيق، فالأوطان تقاس بمدى وفائها لتضحيات أبنائها، والخذلان هنا لا يُغتفر لأن من يُهمل جرحاه اليوم سيهزم نفسه غدا.
اليوم يجب أن نوجه دعوة صادقة إلى القيادة السياسية والعسكرية والحكومة والمنظمات المعنية، أن يعيدوا النظر في واقع الجرحى، وأن يترجموا التقدير إلى أفعال وليس أقوال، فلم نعد نريد خطبا ولا بيانات، نريد مراكز علاج مؤهلة، ومرتبات منتظمة، ورعاية مستمرة تحفظ كرامة من ضحوا من أجلنا.
إن التكريم الحقيقي لا يكون في الكلمات ولا في الصور التذكارية، بل في بناء حياة كريمة لجرحانا الأبطال، فمن لا يحترم جرحاه لا يستحق أن يتحدث عن النصر، ومن ينسى من دافعوا عنه، سيأتي يوم يُنسى فيه هو أيضا.
فلنعيد لهؤلاء الشجعان مكانتهم التي يستحقونها، فهم السطر الأول في كتاب الشرف، وهم عنوان الجمهورية التي ما زالت تنزف من جراحهم، وإن جفت الأقلام عنهم اليوم وتناساهم الجميع، فسيكتب التاريخ غدا بأحرف دامية، أن جرحى الكرامة تُركوا على أرصفة الخذلان.

