في مشهد سياسي يمني حافل بالتعقيدات والانقسامات، تبرز بعض الشخصيات التي استطاعت على مر العقود الحفاظ على مسار معتدل، وإظهار حكمتها السياسية القادرة على التعامل مع كافة المكونات في الساحة اليمنية. الدكتور أحمد عبيد بن دغر، أحد هؤلاء السياسيين الذين جمعوا بين الخبرة والحنكة، متكئاً على إرث نضالي طويل يمتد لعقود من العمل في الساحة اليمنية، بمختلف تياراتها وأزماتها.
في سيرة بن دغر نجد مزيجاً من الأدوار المتنوعة،اكتسب خلالها نضج سياسي وفكري جعلته قادرا على تبوء المراكز الرفيعة في المؤتمر الشعبي العام، وصولاً إلى قيادة الحكومة في وقت كان اليمن فيه يعيش أسوأ مراحله بعد اندلاع الحرب في 2015، واحتفاظه بقدر كبير من التقدير لدى كل الأطراف السياسية، جعلت منه شخصية جامعة رغم التناقضات العميقة التي يعاني منها الواقع اليمني.
رجل الدولة المتمرس
بن دغر ليس مجرد أكاديمي يحمل شهادة الدكتوراه في التاريخ، بل هو سياسي من الطراز الرفيع، يمتلك رؤية تاريخية تتجاوز اللحظات السياسية الضيقة، فقد أدرك مبكراً أهمية المحافظة على: الوحدة اليمنية، والنظام الجمهوري، والهوية الوطنية اليمنية في ظل الصراعات المستمرة، ومنذ أن أنضم إلى صفوف المؤتمر الشعبي العام، والعمل تحت قيادة الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، أصبح واحداً من أهم أعمدته الفكرية والسياسية.
إن حنكة الدكتور بن دغر وخبرته السياسية جعلت منه نموذجاً لرجل الدولة القادر على التعامل مع كل الفرقاء السياسيين، دون أن يفقد بوصلته الوطنية، ولم يُعرف عنه التطرف في المواقف أو الانحياز الكامل لأي طرف على حساب الآخر سوى الانحياز الكامل لليمن ونظامه الجمهوري ومشروعه الاتحادي وهذا ما جعله بعد رحيل صالح وما أصاب المؤتمر الشعبي جراء ذلك، جعلته شخصية توافقية تُطرح كحل وسطي قادر على جمع الأطراف المختلفة.
الحكومة في زمن الحرب: التحدي الأكبر
تولى أحمد عبيد بن دغر رئاسة الحكومة اليمنية في فترة حرجة، خلفاً لخالد بحاح في 2016، وكان اليمن وقتها على حافة انهيار شامل، والحرب مستعرة بين الحكومة الشرعية المدعومة من التحالف العربي وجماعة الحوثي التي سيطرت على العاصمة صنعاء. لم تكن مهمة بن دغر سهلة على الإطلاق، كان عليه أن يقود حكومة في ظروف استثنائية، حيث تفتقر الدولة إلى الموارد الاقتصادية، والمشهد الإنساني في اليمن يزداد قتامة، إلا انه حاول على الرغم من التحديات، إعادة بناء مؤسسات الدولة، في المناطق التي كانت تحت سيطرة الحكومة، وخاصة في العاصمة المؤقتة عدن. بادر إلى اتخاذ قرارات تتعلق بإصلاح المؤسسات الاقتصادية والخدمية، وسعى إلى توحيد صفوف القوى السياسية المختلفة ضمن الحكومة الشرعية، وكانت هناك عقبات كبيرة، سواء من الداخل أو من الخارج، حالت دون تحقيق كامل الأهداف التي كان يسعى إليها. وخلال فترة رئاسة الدكتور أحمد عبيد بن دغر للحكومة من أبريل 2016 حتى أكتوبر 2018، حققت حكومته عدة إنجازات بارزة، منها:
- - نقل البنك المركزي: فقد قامت الحكومة بنقل مقر البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن، بهدف تعزيز السيطرة على الموارد المالية للدولة وتحسين إدارة الاقتصاد.
- - اعادة بناء محطات الكهرباء
- - المحافظة على استقرار العملة الوطنية
- - في مجال الاتصالات تم إطلاق مشروع “عدن نت” وتدشين شبكة إنترنت جديدة بتقنية الجيل الرابع (4G) في مدينة عدن.
- - إعادة تفعيل مؤسسات الدولة: عملت الحكومة على إعادة تفعيل مؤسسات الدولة في المناطق المحررة، مما ساهم في استعادة الخدمات الأساسية وتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين.
- - تحسين الخدمات الأساسية: بذلت جهودًا كبيرة في تحسين خدمات الكهرباء والمياه والصحة والتعليم في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية.
- - تعزيز العلاقات الدولية: سعت الحكومة إلى تعزيز علاقات اليمن مع المجتمع الدولي، مما أدى إلى زيادة الدعم السياسي والإنساني للبلاد.
- - إصلاحات اقتصادية: نفذت الحكومة مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية بهدف تحسين الاقتصاد الوطني وتعزيز الاستقرار المالي.
هذه الإنجازات ساهمت في تعزيز دور الحكومة الشرعية في اليمن وتحسين الأوضاع في المناطق المحررة.
شخصية توافقية في بيئة منقسمة
ربما كان التحدي الأكبر الذي واجهه بن دغر هو محاولته التوفيق بين الأطراف المختلفة داخل الحكومة الشرعية وخارجها، ففي الوقت الذي كانت فيه بعض القوى السياسية تحمل مشاريعها الخاصة ، كان بن دغر يحمل مشروع الدولة الاتحادية يرى ضرورة الحفاظ على الوحدة اليمنية، ولكنه في الوقت ذاته لم يكن معارضاً لفكرة الحوار بين الشمال والجنوب تحت مظلة الدولة الاتحادية .
بن دغر، ابن محافظة حضرموت الجنوبية، كان يفهم جيدًا تعقيدات القضية الجنوبية وحساسيتها، إلا أنه كان يدرك في الوقت نفسه ان عدم معالجتها في ظل حوار وطني عقلاني سيكون بمثابة إعادة إنتاج للصراع، لذلك، سعى إلى أن يكون جسراً بين الحكومة الشرعية والقوى الجنوبية.
التاريخي والمتصالح مع الحاضر
كرجل يحمل خلفية أكاديمية وتاريخية، يعرف بن دغر أن أي تسوية سياسية في اليمن لا يمكن أن تنجح إلا إذا كانت قائمة على فهم جذور الصراع والتصالح مع الماضي، ولذلك، كثيراً ما كانت تصريحاته وكتاباته تركز على ضرورة المصالحة الوطنية الشاملة، وفتح صفحة جديدة تستند إلى احترام مختلف المكونات السياسية والاجتماعية في اليمن. ويرى الدكتور أحمد عبيد بن دغر، ضرورة الإلتزام بالمرجعيات الثلاث كمسار أساسي لتحقيق السلام وبناء الدولة اليمنية الحديثة.، والتي تتضمن المرجعيات: 1. المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية: التي وضعت إطارًا للانتقال السياسي في اليمن. 2. مخرجات الحوار الوطني الشامل: التي حددت معالم الدولة الاتحادية الجديدة، بما يضمن الشراكة في السلطة والتوزيع العادل للثروة. 3. قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216: الذي يدعو إلى انسحاب الميليشيات وتسليم الأسلحة واستعادة مؤسسات الدولة.
انه يرى أن الالتزام بهذه المرجعيات هو الطريق الوحيد والآمن لإنهاء الأزمة اليمنية وبناء دولة اتحادية ديمقراطية تضمن العدالة والمساواة بين جميع أبناء الشعب اليمني كما يدرك أن الحل السياسي احد الوسائل التي تحقق السلام المستدام في اليمن، وأن الحل الوحيد هو الحوار، ولذلك، كان من أبرز المدافعين عن المفاوضات السياسية بين الأطراف اليمنية، حتى في أشد لحظات الحرب ضراوة، هذه الرؤية المتوازنة جعلته شخصية جامعة تستطيع التحدث مع الجميع دون أن تفقد مصداقيتها، وهو أمر نادر في الساحة اليمنية المليئة بالتناقضات والانقسامات. عزالدين عبدالسلام العنسي امين عام مجلس الشورى عضو اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام
من صفحة الكاتب في فيسبوك