شهدت المنطقة العربية خلال العقد الأخير جدلًا واسعا حول موقع الثورات في سياق التحولات السياسية والاجتماعية، بحيث تصاعدت أصوات تُحمّل هذه الثورات مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع من انهيارات وصراعات، يبتهج بها إعلام الثورة المضادة ، ويعتبرها شهادة للتاريخ، في مقابل تغييب او تجاهل يكاد يكون ممنهجا لمسؤولية الأنظمة التي امتد حكم بعضها لعقود طويلة.
وفشلت في إحداث تحول حقيقي في بنى الدولة وتحول نوعي الفضاء العام وبناء المؤسسات، هذه المقاربة، والتي تعيد إنتاج الماضي بأدوات انتقائية، تستند إلى سردية تُضفي على الأنظمة السابقة صفة “الاستقرار”، بينما تردّ كل مظاهر الاضطراب إلى لحظة الاحتجاجات التي شكّلت انفجاراً مكشوفاً لما ظلّ مكبوتًا لسنوات.
إن مراجعة دقيقة لتاريخ تلك البلدان تُظهر أن ما يُسمّى بالاستقرار لم يكن استقرار دولة مؤسسية قابلة للاستمرار، بل نمط حكم قائم على توازن هش بين القبضة الأمنية وتجميد المجال العام.
وقد أفضت تلك السياسات إلى تجريف تدريجي لمؤسسات الدولة، وتفريغ معنى الدولة لصالح فرد، وتآكل قواعد المشاركة السياسية، وتدهور البنى التعليمية والصحية والاقتصادية. ومع مرور الوقت، تحوّل هذا النمط إلى بنية منهكة، عاجزة عن الاستجابة لأبسط متطلبات الحكم الرشيد.
يظهر هذا الإشكال بوضوح في الحالة السورية، حيث يستعيد جزء من الرأي العام عبارة “كنا نعيش في ظروف أفضل”. غير أنّ هذا التوصيف يتجاهل صور صيدنايا، والخراب الذي تركة النظام في سوريا، ويتجاهل واقع القمع المنهجي وغياب المساءلة، وبنية أمنية كانت تنتج صمتا عاما لا يعكس رضا اجتماعياً بقدر ما يعكس قدرة الدولة على الضبط.
لقد كان المواطن يحصل على الخدمات الأساسية في حدها الأدنى وضمن معادلة واضحة: الامتثال مقابل البقاء. وهذا الشكل من “الاستقرار” لم يكن نتاج سياسات تنموية ناجحة، بل نتيجة إغلاق المجال السياسي لعقود.
الحالة اليمنية بدورها تظهر نمطاً مشابهاً، وإن اختلف في إدراة الفضاء العام، إذ تُروَّج سردية حول وجود “هامش حرية” قبل 2011. وهو هامش هشّ تحكمه اعتبارات سياسية وتقليدية، بينما كانت مؤسسات الدولة تتراجع بصورة مستمرة بفعل الفساد المالي والإداري وتداخل شبكات النفوذ، إضافة إلى تفكك الأجهزة العسكرية، وانعدام البنية التحتية الأساسية في العاصمة والمناطق المحيطة.
وبدل أن تتوجه الموارد إلى بناء مؤسسات حديثة، جرى استخدامها في تعزيز الولاءات، الأمر الذي ترك الدولة في وضع بالغ الهشاشة عند أول اختبار، بل رسخ صالح ما يمكن تسميته "دولة الشحاتة" أغلب مشافينا، ومنجزاتنا هبات وصدقات خارجية، بينما ثرواتنا تاجر بها صالح وعائلة سواء الغاز او النفط.
أما ليبيا، فقد شكّلت نموذجا آخر للدولة التي تعتمد على الريع دون بناء مؤسسي. فالثروة النفطية الضخمة لم تُترجم إلى نظام حكم مستقر، بل إلى سلطة فردية احتكرت القرار السياسي، وأبقت الدولة في حالة فراغ مؤسسي كامل. وعندما سقط رأس النظام، لم تجد البلاد بنية قادرة على امتصاص الصدمة، ما أدى إلى التسارع الحاد في الانهيار.
وفي السودان، أدّى تراكم ثلاثين عامًا من حكم سلطوي قائم على المليشيات واقتصاد الظل إلى خلق دولة مزدوجة، تفتقر إلى مركزية حقيقية، وتستند إلى أجهزة أمنية موازية لمؤسسات الدولة الرسمية. ومع سقوط النظام، برزت التناقضات البنيوية التي كانت مغطاة بطبقة رقيقة من السلطة.
هذه الحالات مجتمعة تكشف عن قاعدة عامة: لم تكن الثورات سببا في انهيار الدولة، ولا نقطة جوهرية في الحروب، بل كانت حدثا كشف عن انهيارها الفعلي. الذي كان يختفي خلف اجهزة فاسدة، تقوم بدور عصا نبي الله سليمان المتأكلة لنظام ميت في جوهره، فالبنية السياسية التي لا تُنتج شرعية متجددة، ولا تستند إلى مؤسسات مستقرة، ولا تسمح بالمساءلة أو المشاركة، تكون عُرضة للانهيار عند أول اهتزاز.
وعندما تتآكل قدرة الدولة على توفير الخدمات العامة، وتتحول السلطة إلى حكر للثروة والقرار للعائلة وأداة للضبط بدل أن تكون إطاراً للحكم الرشيد، يصبح الانفجار الاجتماعي مسألة وقت فقط.
من منظور اجتماعي–نفسي، لا تفهم الثورات بوصفها ردود فعل عفوية، بل كمحصلة لانهيار متدرج في العقد الاجتماعي. فالعقد غير المكتوب الذي يربط المواطن بالدولة يفقد صلاحياته عندما تَفشل الدولة في توفير الحد الأدنى من العدالة وتكافؤ الفرص، وعندما تتراكم الإهانات اليومية للمواطن، والإقصاء السياسي، ونهب حقوقة الاقتصادية والاجتماعية ، وتتحول السياسة إلى مجال مغلق. عند هذا الحد، يصبح الاحتجاج فعلا مرتبطا بإعادة تعريف الذات الجمعية، لا مجرد رفض سياسي.
هذا يقود إلى سؤال محوري: ما هو الاستقرار الحقيقي؟
لا يمكن اعتبار غياب الاحتجاجات مؤشرًا على الاستقرار إذا كان ناتجًا عن انعدام الحرية. كما لا يمكن اعتبار بقاء الحاكم أو الأجهزة الأمنية قرينة على الصلابة المؤسسية. الاستقرار، وفق المعايير المتعارف عليها في العلوم السياسية والاجتماعية، يرتبط بقدرة الدولة على توفير التعليم، والصحة، والقانون، والعدالة، والمشاركة السياسية، وتوزيع الموارد بصورة متوازنة. إنه استقرار الإنسان لا استقرار السلطة؛ استقرار المؤسسات لا استقرار الفرد؛ استقرار الأمل لا استقرار الخوف.
إن الدعوة إلى تحميل الثورة وحدها مسؤولية الانهيارات هي تبسيط مخلّ للتاريخ، وتقويض لمحاولة فهم السياقات البنيوية التي سبقت الانفجار. المسؤولية الحقيقية تقع على النظم التي راكمت الفشل وعطّلت الإصلاح وجرّفت الدولة من الداخل. وبذلك فإن قراءة المرحلة الماضية تتطلّب مقاربة أكثر اتزانًا، تُميّز بين أثر الثورات باعتبارها رد فعل، وبين أثر الأنظمة باعتبارها صانعة الأسباب.
وفي الأخير إن فهم التحولات العربية خلال العقد الماضي يتطلب تجاوز السرديات العاطفية التي تبرّئ الأنظمة أو تُدين الشعوب، والتوجه نحو تحليل يستند إلى الوقائع والبنى. فالتاريخ لا يُقرأ من لحظة الانفجار، بل من المسار الطويل الذي سبقها.
والاستقرار لا يُقاس بصمت الشوارع، بل بقدرة الدولة على الاستمرار بوصفها كيانًا مؤسسيًا يحفظ الحقوق، ويرتبط بشرعية مستمدة من المجتمع ذاته. إنّ إعادة قراءة الماضي وفق هذه المقاربة ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة استراتيجية لتجنّب تكرار الدورات ذاتها. ومن دون إدراك واضح لجذور الأزمة، لن يكون ممكنًا بناء مستقبل يحقق الحدّ الأدنى من الاستقرار الحقيقي المستند إلى الإنسان والقانون والمؤسسات.
- (المصدر أونلاين)

