ما كانت روسيا «البوتينية» لتحلم بمشهد إقليمي ودولي يمهد لعودتها إلى الساحة الدولية، بعد عشر سنوات من الفوضى التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، تيتّمت فيها تيارات اليسار بعد غياب «الأب الروحي» الراعي لنضالاتها، كالحال التي آل إليها العالم منذ عام 2000. لكن روسيا في عهد بوتين لم تكن وفية لشيء من إرث أسلافها السوفييت إلا لطموح استعادة مناطق النفوذ التي تشرذمت خلال سنوات الضياع التأسيسية إبان حقبة سلفه «يلتسين».
من جورجيا إلى أوكرانيا مرورا بسوريا، وطئت موسكو المياه الدافئة عبر البوابة الشامية، فوضعت يدها على كل ملفات الحل السياسي والعسكري في سوريا، بعد أن انكفأت الدول الأخرى، ولا سيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فضلا عن الدول العربية، لتعود موسكو إلى مسرح صناعة الأحداث الدولية من بوابة الفيتو الذي ادخرته طويلا لتستعمله أكثر من مرة لتعطيل أي حل سياسي أو جهد إنساني في سوريا لا يمر عبر البوابة الروسية.
بعد المياه الدافئة في سوريا وشرق المتوسط، تروم موسكو الوصول إلى المياه «الدافئة جدا» عبر البوابة اليمنية، فالعلاقات اليمنية الروسية قديمة تعود إلى عام 1928 إبان الحقبة الملكية المتوكلية، وارتكزت تاليا على معاهدتي التعاون والصداقة مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية عام 1979 في الجنوب، والجمهورية العربية اليمنية عام1984 في الشمال، لكن دعم الاتحاد السوفييتي كان «ضئيلاً» فلم تكن موسكو تبحث عن انتصار جنوبي اليمن بل كانت مصلحتها تتمحور حول استخدام المرافق البحرية والجوية في عدن. ومع نهاية الحرب الباردة، تخلت موسكو عن قواعدها جنوب اليمن، وفقدت التأثير الجيوسياسي في المنطقة لصالح واشنطن.
ومع عودة روسيا إلى المنطقة وتراجع التأثير الأمريكي، تبرز رغبة موسكو في مواجهة الغرب في جنوب غرب القارة الآسيوية لإعادة قوتها العسكرية والجيوسياسية في البحر الأحمر وخليج عدن، وما حديث المسؤولين الروس عام 2009 عن رغبتهم بإنشاء قاعدة عسكرية على مقربة من مضيف باب المندب ذي الأهمية الاستراتيجية سوى مؤشر واضح على ذلك.
لا تهتم موسكو في اليمن بمن سيحكم البلاد، ولا بالأزمة الإنسانية التي تضرب أطناب شعبه، هي تعنى بتوطيد وجودها العسكري في جنوب اليمن قرب مضيق باب المندب وإنشاء قواعد لها في عدن وسقطرى
تمتلك روسيا عدة أوراق للعبها في الملف اليمني، لا سيما بعد المبادرة السعودية في اليمن لوقف إطلاق النار، فعلاقة موسكو المتوترة مع الرياض إبان انفجار حرب النفط عام 2020 وهبوط أسعار توريده بضغط من الولايات المتحدة، يجعل من الملف اليمني أولوية في ابتزاز الرياض في هذا الملف، لا سيما أن روسيا تمتلك علاقات مع جماعة الحوثي عبر إيران، وأسرة علي عبد الله صالح (ابنه أحمد المقيم في الإمارات) التي تربطها بهم علاقات قديمة، وصلت إلى حد وعد الرئيس المخلوع موسكو بقواعد في اليمن مقابل الحصول على دعم الروس قبل خلعه.
في الجنوب اليمني الذي يشكل أهمية أكبر لموسكو نظرا لتاريخية العلاقة بينهما، تطمح روسيا إلى استعادة «قاعدة العند» قرب عدن التي كانت موجودة فيها، وكذلك الوصول إلى جزيرة سقطرى بالتعاون مع أبو ظبي التي لم تتوقف عن إغراء الروس بالتدخل إلى صالح المجلس الانتقالي الجنوبي ودعم موقفه الانفصالي مقابل الحصول على امتيازات عسكرية في جنوب اليمن.
ولأن كلفة أي تدخل عسكري مباشر تظل كبيرة بالنسبة لروسيا، فهي تحاول استنساخ الحل السوري، عبر الهيمنة على علاقات إيران بالحوثيين من جهة، وإمداداهم بالمستشارين العسكريين، وسط تسريبات عن إرسال شركات أمنية روسية تدعى PMC شبيهة لمجموعة فاغنر سيئة الصيت في سوريا وليبيا، لكنها تمتلك معدات عسكرية أكثر تطورا، وصولا إلى بسط هيمنتها على الحل اليمني عبر شبكة علاقتها المتشعبة شمال اليمن وجنوبه.
لا تهتم موسكو في اليمن بمن سيحكم البلاد، ولا بالأزمة الإنسانية التي تضرب أطناب شعبه، هي تعنى بتوطيد وجودها العسكري في جنوب اليمن قرب مضيق باب المندب وإنشاء قواعد لها في عدن وسقطرى، بعد أن وقعت اتفاقا استراتيجيا مع السودان لإنشاء قواعد عسكرية، مقابل دعم المجلس الانتقالي الممول إماراتيا وطموحاته الانفصالية، في السياق ذاته، مساومة الرياض على شكل الحكم شمالي اليمن وانتظار العروض المقدمة إليها والمفاضلة بينها وبين العرض الحوثي – الإيراني لضمان الاستقرار في اليمن، في مقابل دعم الحكومة الشرعية المدعومة من الرياض، والأهم من ذلك كله لي ذراع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا في منطقة تعتبرانها مناطق نفوذ استراتيجي لهما على طريق إمدادات الطاقة والتجارة العالمية.
فهل تستنسخ موسكو المقاربة السورية في اليمن؟ وهل تتكشف الأيام عن نفوذ متزايد ووجود أمني وعسكري متزايد لروسيا في أقصى جنوب القارة الآسيوية وشبه الجزيرة العربية؟
كاتب فلسطيني