ليس من السهل أن نميز دائما بين التضامن الصادق والتضامن المراوغ، بين الكلمات التي تُقال دعما لحرية التعبير، وتلك التي تُصاغ لتقنينها بلغة محايدة تُجيد الالتفاف؛ فالخطر يكمن فيمن ينتهك الحقوق بقوته الغاشمة، ومن يغلف الانتهاك لاحقا بمبررات يستخدم فيها اللغة الناعمة، فتصبح اللغة الحقوقية شريكا في القمع، حتى حين ترتدي أقنعة التضامن النبيلة!
اعتُقل الكاتب اليمني محمد دبوان المياحي من قبل جماعة الحوثي، وأُخضع لإخفاء قسري ثم لمحاكمة سياسية انتهت بالحكم عليه بالسجن سنة ونصف والمنع من الكتابة لاحقا، على خلفية مقال رأي انتقد فيه خطاب عبدالملك الحوثي، ووصفه بأنه مشروع تدمير للوعي، وتجريف لمعنى الإنسان! لم يتضمن المقال اتهامات جنائية، ولا بيانات زائفة، بل كان تعبيراً مكثفاً عن الرفض، بلغة حادة لكنها سلمية تماما، مع ذلك، اعتُبرت كلماته تهديدا لأمن الدولة، واستُخدمت المحكمة الجزائية المتخصصة -التي سبق للجماعة أن أدانتها حين كانت تُستخدم ضدهم- لمحاكمته بالأدوات ذاتها التي طالما شكوا منها؛ المفارقة هنا أن الانتهاك لم يقتصر على المحاكمة ذاتها، بل امتد إلى الطريقة التي جرى بها تطبيعها لاحقا تحت غطاء "التضامن الملغوم".
في منشور مطول أعقب صدور الحكم بحق محمد المياحي، تبنّت رضية المتوكل، رئيسة منظمة "مواطنة"، خطابا بدا وكأنه تضامن حقوقي تقليدي، بدأ باستدعاء لمحاكمات مماثلة جرت في عهد صالح، إدانة ضمنية لاستخدام المحكمة الجزائية المتخصصة، والتذكير بأن جماعة الحوثي كانت هي ذاتها ضحية لهذه الأدوات؛ لكن حين نقرأ المنشور بعين تحليلية، تظهر جملة واحدة تتوسط النص وتنسف منطقه الأخلاقي من الداخل، تقول الجملة: "كتاباته التي حتى بما حُشر فيها من معلومات مغلوطة هي في الأساس ضمن حرية التعبير المكفولة دستورا وقانونا".
هذه العبارة، ولو أُدرجت ضمن خطاب طويل عن حرية التعبير، تفتح ثغرة في جدار التضامن؛ فهي تُعيد إنتاج رواية السلطة بأن ما كُتب لم يكن مجرد رأي، بل حمل "مغالطات"، أي زيفاً، أي مادة قابلة للتجريم؛ وبينما يفترض في الحقوقي أن يدافع عن حرية التعبير مبدءً لا جودة محتوى، فإن رضية نقلت إحساس المتلقي من سؤال "هل من حقه أن يكتب؟" إلى "هل كتب ما يستحق الدفاع؟ هل كان مسؤولاً وهو يستخدم حقه في الكتابة"؛ وهذا منزلق بالغ الخطورة، لأنه يعيد بناء القضية من داخل شروط المستبد.
فإن ردّت بقولها: لم أقل إن المياحي مجرم أو أنه يستحق العقوبة، بل أشرت فقط إلى وجود بعض المغالطات، وأكدت أن ذلك لا يُبرر سجنه. نقول لها: الدفاع عن حرية التعبير لا يُمارس بهذه الطريقة المشروطة؛ حين تجعلين النقاش يدور حول "جودة" المقال، بدلاً من مشروعية العقوبة، فإنك تنقلين مركز الثقل من يد الجلاد إلى صدر الضحية؛ هكذا يُعاد تشكيل وعي القارئ ليقرأ أن المياحي لم يُسجن لأنه عبّر، بل لأنه عبّر بطريقة خاطئة؛ وتلك ليست لغة تضامن، بل إعادة تدوير خفيفة لخطاب القامع المستبد.
فإن قالت: نعم، الجملة في صيغتها الأولى كانت مبهمة، وقد عدّلتها لاحقا لأوضح أن المغالطات جاءت من النيابة، وليس من المقال نفسه؛ أليس من حق المرء أن يصحح اخطاءه؟ وقد صارت الجملة لاحقا كالتالي: " كتاباته التي حتى بما حُشر فيها من معلومات مغلوطة من قبل النيابة هي في الأساس ضمن حرية التعبير المكفولة دستورا وقانونا".
قلنا لها: ليس في التصحيح خطأ، بل في توقيته، فالجملة الأصلية نُشرت في ذروة التفاعل، وبلغت أثرها الكامل في وعي الجمهور، ثم جاءت الصيغة المعدّلة في وقت متأخر من الليل، حين يكون المنشور قد أدى وظيفته، وهدأت وتيرة التداول؛ هذا ليس تصحيحا، بل تحصينا ذاتيا بعد تمرير الرسالة.
حين تُدرج عبارة مثل "المعلومات المغلوطة" ضمن منشور يفترض أنه تضامني، فإن القارئ غير المتمرس سيتلقّاها كإشارة محورية؛ سيفكك النص بهذا الشكل: "نعم، اعتُقل المياحي ظلما، لكن يبدو أنه كتب شيئا خاطئا، ربما تجاوز، وربما كان عليه أن يصوغ رأيه بطريقة أفضل.."، وهكذا ينتقل مركز الثقل من سلطة تُعاقب الكلمة، إلى كاتب لم يُحسن اختيار الكلمة، والنتيجة، أن محمد المياحي لا يُرى كصاحب حق انتهُك، بل كشخص متهور، كتب بانفعال، فنال ما يستحقه ـ ولو جزئيا؛ وهو تأويل لا تحتاج السلطة إلى فرضه، بل يكفي أن يُلمَّح به من جهة تُوصف بأنها مدافعة عن الحقوق!
بدلا من أن تضع رضية نفسها في موقع من يواجه أدوات القمع، أعادت إنتاج القمع بلغة أنيقة حيث كرّست الرواية الرسمية، مع لمسة تحفظ حقوقي، وشرعنت خنق الحريات بصيغة لغوية تبدو موضوعية، وبهذا، لم تعد حرية التعبير مبدأ يُدافع عنه، بل ممارسة قابلة للتقييم والفرز وفق معايير “الاحتراف” و“حسن الأداء”، وفي مثل هذا السياق، يُفرغ التضامن من رمزيته، ويُحوّل إلى بطاقة تُمنح لمن يُجيد التعبير وفق شروط السلطة وسقفها.
فإن ردّت بقولها: هذا تأويل متعسّف؛ ألم أقل صراحة إن الحكم ظالم؟ ألم أكتب منشورا كاملا لإدانته؟
نقول لها: نحن لا نزن النوايا، بل نقرأ الأثر؛ وحين تكونين من أصحاب الخبرة في تحرير النصوص ومراجعتها، ونعلم أنك لا تنشرين دون تحرير وتدقيق، يصعب تصديق أن جملة كهذه سقطت سهوا؛ ثم إن الجملة المعدّلة لم تُنشر في منشور جديد، بل دُسّت تعديلا في المنشور نفسه.
رضية المتوكل ليست هاوية منشورات، بل خبيرة في إدارة الخطاب؛ تعرف تماما متى تنشر، ومتى يعدّل الناس منشوراتهم، ومتى يُقرأ النص ومتى يُنسى، وبالتالي فإن تعديل النص في الثانية فجرا (بعد انقضاء الذروة) يعني أنها أرادت تغيير البنية القانونية/التاريخية للمنشور دون أن تؤثر على أثَرِه الجماهيري، من خلال توضيح مستقل.
ثم لماذا اختارت رئيسة منظمة حقوقية، حققت حضوراً كبيراً خلال السنوات الماضية، أن تعبّر عن موقفها من محاكمة سياسية جائرة عبر منشور فيسبوك، بدلا من بيان رسمي صادر عن المنظمة التي تقودها؟
البيان يُحمِّل الجهة المصدِرة موقفا واضحا، يُوثّق، ويُترجم، ويُرسل عبر القنوات الرسمية إلى وسائل الإعلام والمنظمات الدولية، ومن خلاله يقاس موقف المنظمة التضامني الثابت، أما المنشور، فهو أداة مرنة، قابلة للتعديل، يُقرأ في لحظته ثم يتلاشى، وحين يواجه ناشط حقوقي سلطة قمعية، ويختار التعبير عن موقفه الحرج تجاهها بوسيلة غير ملزمة، فإنه يساهم في تحويل المنطقة الرمادية التي يقف عليها إلى مساحة إضافية للمستبد يتحرك فيها بحرية واطمئنان.
فإن ردّت بقولها: لم يكن لدي وقت لإعداد بيان، والمنشور هو أسرع وسيلة للوصول إلى الناس، نقول لها: هذا ليس تضامنا، بل إسقاط للواجب على نحو رمزي متردد، فالمنظمة التي تملك منصات وقوائم إعلامية وموظفي تحرير وترجمة يعملون طوال الوقت، تعرف جيدا كيف تصدر بيانا في ساعة واحدة، حين تريد، وحين يُستبدل البيان بمنشور، فهذا يعني أن التضامن يُدار ضمن هامش إسقاط الواجب، وليس ضمن دائرة الالتزام؛ ويُصبح الحضور في حملة الدفاع عن الضحية مشاركة مشروطة على طريقة "هذا جهد المقل، وسامحونا على التقصير"
غني عن القول إن الناشط الحقوقي ليس شاهدا محايدا على المأساة، بل هو في موقع الصراع الرمزي على تعريف ما هو ظلم، ومن هو الضحية، وما الذي يجب أن يُقال في اللحظة الحرجة، ومن يملك هذه السلطة، يملك أيضا قدرة إعادة ترتيب الوعي العام، ليس بالضرورة من خلال تزييف الوقائع، بل بتأطيرها بطريقة تجعل الفعل القمعي يبدو أقل فظاعة، وتجعل المظلوم يبدو أقل استحقاقا للتعاطف الكامل، وهذا تماما ما فعله منشور رضية المتوكل، فقد حمل مظهر الدفاع، لكنه أعاد رسم حدود المشروعية من الداخل، وبدل أن يضع السلطة في موقع المساءلة، وضع الضحية في موضع الشبهة.
في الحالة التي نحن بصددها، كان من المفترض أن يُقرأ اعتقال محمد المياحي اعتداءً سافراً على حرية التعبير، لا لبس فيه ولا مجال لتأويله؛ لكن حين يُقال في معرض "الدفاع" عنه إن كتاباته احتوت على "معلومات مغلوطة"، فإن هذا التوصيف، ولو جاء لاحقا مصحوبا بتعديل شكلي، يكون قد زرع الشك في وعي القارئ العادي، وربط بين فعل الكتابة وفعل العقوبة دون تصريح، وهذه هي الحيلة التي يُعاد بها تشكيل المظلوم في مخيلة الجمهور ليصبح ضحية لنفسه بالدرجة الأولى.
حرية التعبير ليست جائزة تُمنح وفق درجات الامتثال لسقف السلطة، بل ضمانة جوهرها أنها تَسَع المختلف، والغليظ، والحاد، والمستفز، ولا يُدافع عن حرية التعبير من يحب الكاتب، أو يعجبه أسلوبه، أو يشاطره الموقف، بل من يوقن أن المبدأ لا يقبل التفصيل على مقاس الأشخاص؛ فإذا تحوّل الدفاع عن الكلمة إلى مشروطية خفية، تُربك البوصلة الأخلاقية بمجرد إشارة إلى "رداءة" التعبير أو "مغالطاته"، فنحن لا نمارس التضامن، بل نعيد هندسة من يستحقه، ونصوغ ذلك بلهجة حقوقية مصقولة، ظاهرها الإنصاف وجوهرها الانحياز.
لم يكن ما كتبه آخرون من ملاحظات ناقدة لخطاب رضية سوى محاولة لفهم التباسات لغتها وتوقيت تعديل عباراتها؛ لكن ما كشف نوايا الخطاب فعلا، لم يكن في الصيغة الأولى ولا المعدّلة، بل في منشور لاحق كتبته باستخفاف، بعد أن خفّت حدة الضوء؛ منشور قصير، شعبي اللهجة، تقول فيه: "فلتوا محمد المياحي وجالسين يحطوا تضامن رضية المتوكل تحت المجهر؛ من هم؟ شلة عايشة خارج اليمن، بوصلتهم الأخلاقية مربوشة من زمان.."
في هذا المنشور، تخرج رضية من شخصية المتحدثة باسم القيم أو الحقوق، إلى ناطقة بلسان السلطة؛ تحتقر المُقيمين خارج اليمن، مع أن معظمهم لم يخرج إلا لأن بقاءه كان يعني السجن أو الاغتيال، بينما بقيت هي تمارس عملها (الحقوقي) من داخل صنعاء، في ظل سلطة تمتلئ سجونها بمئات من زملائها المفترضين، وبعض صديقاتها وأصدقائها الشخصيين، فيما تتجاهل كل هذه الحقائق وتتهم منتقديها بأنهم مدفوعون، وتتهمهم باضطراب البوصلة، لأنهم طالبوا بتضامن صريح لا يُخضع الضحية لتأويل ملتبس!
وبدل أن تواجه الأسئلة الأخلاقية بموقف واضح، ذهبت لتتهكم عليهم بعبارات من نوع "المخرج عايز كده"، وكأن المبدأ مشهد تمثيلي، يُدار بإخراج سينمائي، وليس فعلا نابعا من ضمير مسؤول؛ هذا المنشور يُدين صاحبته من حيث النبرة الاستعلائية، ومن حيث سقوطها الكامل في منطق التبرم السلطوي، الذي يرى في النقد مؤامرة، وفي الأسئلة تشكيكا، وفي المنفى عيبا يستحق التعيير، متجاهلاً حقيقة كونه أثراً مباشراً لسلوك مليشيا الحوثي وإرهابها!
وهكذا، يقف القارئ أمام شخصية قادرة على إدارة خطاب مزدوج: ناعم في النص، هجومي في الهامش، حقوقي في اللغة، سلطوي في الموقف.
باعتقادي أن صدق المواقف الحقوقية يختبر حين يكون صوت التضامن مكلفا؛ التضامن يُقاس بما إذا كان يصدر من موقع وضوح لا يخشى الالتباس، وحين يستخدم الناشط الحقوقي كل قدرته في الدفاع عن قيم الحرية وضحاياها، أما التضامن المشروط، متعدد الطبقات، فهو مغالطة في هيئة موقف، وخذلان مغلّف بلغة حقوقية.
وعلى طريقة المياحي نختم بالقول "باسم الله.. أول عودي".
- نقلاً عن المصدر أنلاين