هل ستتخلى إيران فعلًا عن الحوثي ، سؤال لا يمكن الاجابة عليه بصورة مستقلة عن التطورات التي شهدها الإقليم خلال الفترة الماضية وخاصة :
١/ ما حدث لحزب الله ، وسقوط نظام الأسد والتغيرات الهامة داخل بنية النظام السياسي العراقي ، ناهيك عما يتعرض له الحوثي ومخزون السلاح الايراني الإستراتيجي في مناطق سيطرته من تكسير بواسطة الجيش الأمريكي .
٢/ ما يدور داخل أروقة نظام الحكم في إيران وجناحيه الحكومي البراجماتي والمحافظ الأيديولوجي من نقاش حول ما يسمى "محور المقاومة" ، ومدى فائدته حينما يتعلق الأمر بمصالح النظام الايراني الاستراتيجية وما بات يتهدده من مخاطر وعوامل معاكسة .
فيما يخص العنصر الأول ، لا شك في أن ما حدث ، ويحدث قد وضع النظام الإيراني أمام خيارات صعبة بعد أن فقد مشروع التوسع والمقاومة زخمه العسكري والسياسي والشعبي .
وراح بعض المحللين السياسيين الايرانيين الذين ينتسبون للنظام أمثال علي مهدي شريعتي يتحدثون عن أن الدولة الايرانية أخذت تتخفف من عبء هذا المشروع ، الأمر الذي سيمكنها من مواجهة التحديات المصيرية .
-أما فيما يخص العنصر الثاني فمن الواضح أن النقاش الداخلي حول الموضوع يتصاعد ، لكنه لم يحسم بعد ، وإن كانت المعطيات السياسية والعسكرية والأمنية في المنطقة ، على نحو عام ، قد أخذت تقدم أكثر من دليل على أن المنهج التوسعي الذي استخدمته إيران من خلال الشحن الطائفي ومن ثم التفعيل العسكري والسياسي لطوائف بعينها في المجتمعات العربية لم يؤد سوى إلى تكسير الدولة في هذه المجتمعات بكلف ضخمة ، دون أن تحقق إيران من ورائها أي فائدة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية دات بعد استراتيجي .
يؤكد هذه الحقيقة الجناح الحكومي البراجماتي في النظام ، وإن كان لا يصرح بذلك إعلاميًا ، إلا أن القراءة المتأنية للتصريحات التي يطلقها على ألسنة بعض منتسبيه ، بين الحين والآخر ، تشي بأن هناك معارضة للكلفة الباهضة التي تتكبدها إيران للانفاق على مشروع فاشل أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنه أضحى عبئًا يثقل الاقتصاد والمواطن الايراني ، بل ويهدد النظام من أساسه .
هذه المعارضة تتنامى ، وتستمد حوافز التمسك بموجهاتها من الرفض الشعبي لسياسة النظام ، هذا الرفض الذي أخذ يطوق القلة الحاكمة ، والتي فرضت خياراتها الأيديولوجية التي أخذت خلال السنوات الماضية تضع المنطقة كلها في حالة من الفوضى والحروب والتحفز والاستقطابات .
غير أن ما يمكن الإشارة إليه هنا هو أن مشروع بناء وتمويل المليشيات الطائفية تحت شعار المقاومة كان جزءًا من معادلة الصراع الداخلي بين جناحي النظام الايراني الحاكم . فطريقة بنائها وتمويلها وارتباطها وتنفيذ مهامها ومنهجها الفكري تنم عن صلتها المباشرة بالجناح الأيديولوجي الذي يقوده الحرس الثوري ويمتد رأسياً الى مؤسسة المرشد ، وهناك شواهد تدل على استقواء هذا الجناح المتشدد بهذا المشروع في تشكيل معادلة الحكم .
حتى أن الدعم الذي يقدم لهذه المليشيات يأتي كما قال حسن نصر الله من الموارد التي تتجمع بيد المرشد ( الخمس) وهي ذات طبيعة ايديولوجية تضفي على الدعم مشروعية خاصة ، وتبرئ الدولة الايرانية منها .
أمريكا التي أخذت على عاتقها إدارة توافقات جيواستراتيجية في هذه المنطقة الحساسة لم تحسم أمرها ، منذ سقوط الشاه عام ١٩٧٩، فيما يخص الدور التخريبي الذي يقوم به هذا النظام في المنطقة مروراً بحرب العراق وايران حتى إسقاط نظام صدام في العراق وإطلاق يد إيران في العراق .
إدارة بايدن غضت الطرف عما تقوم به إيران من دور في إرباك استقرار المنطقة ، وتعطيل أي محاولة لتحقيق هذا الهدف من خلال عدم السماح بتجسير المسارات السياسية لدولها مع جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية لتبدو السياسة وكأنها تتحرك في فراغ وبلا محتوى اجتماعي ليسهل اختراق البنى الاجتماعية بمشروعها الانقسامي الطائفي .
وعندما أخذ هذا المشروع يصطدم بالمشروع الاسرائيلي ، الذي ينافسه ويتخادم معه ، في نفس الوقت ، على ذلك النحو الذي بات كل منهما يوفر الظروف والاسباب لتقوية بعضهما البعض على حساب استقرار دول المنطقة وإبقائها منطقة صراع وحروب ، أخذت إدارة بايدن تعيد تقييم الوضع بمعايير لم تكن مصالح دول المنطقة حاضرة فيها بالقدر الذي يجعل التدخل مطمئنًا لدول وشعوب المنطقة .
كانت إدارة بايدن تترنح ، ولطالما ترددت في وضع استراتيجية واضحة المعالم للتعاطي مع خطر هذا المشروع على أمن المنطقة ومصالحها ، فيما عدا ما يتعلق بالمساس بأمن اسرائيل وأمن الملاحة الدولية في البحر الأحمر ، والڤيتو على انتاج السلاح النووي ، الامر الذي شعرت معه شعوب المنطقة وحكوماتها بالخيبة ، وعدم التعاطي ، من ثم ، مع المواجهات المحدودة التي أعلنتها مع مشروع التوسع الايراني ، حيث تأسست هذه المواجهة على عنصرين : أمن الملاحة الدولية ، وأمن اسرائيل ، وأغفلت ما يتعرض له أمن دول المنطقة واستقرارها ومستقبل شعوبها من مخاطر .
لقد ظلت المواجهة بلا محتوى سياسي قادر على أن يطلق ثقة من نوع ما لدى شعوب وحكومات المنطقة تجعلها ذات معنى حينما يتعلق الأمر بربط أمن دول المنطقة بأمن الملاحة الدولية وتوفير شروط تحقيق الامن الاقليمي والدولي ، حتى جاء ترمب الذي نقل المواجهة مع هذا المشروع الى طور جديد ، بدأ بإعادة المليشيات الحوثي إلى قائمة الارهاب ، مع إجراءات تنفيذية لا تتوقف بالقرار عند حدوده الشكلية كما يحدث أحيانًا كثيرة ، وأصبحت سياسة الادارة الأمريكية الجديدة تعمل على مستويين :
المستوى الأول خطاب متشدد موجه في الأساس الى الجناح الايديولوجي المتطرف من ناحية ، وخطاب ناعم لدعم الجناح البراجماتي في النظام من ناحية أخرى، وهذا أمر مقبول ديبلوماسيًا من دولة عظمى كالولايات المتحدة الامريكية التي تحاول أن تحدث تغيرات سياسية واستقطابات إجتماعية داخل النظام كي يقبل بالتفاهمات التي تطرحها معه على أكثر من صعيد ، ذلك أن هدفها في نهاية المطاف هو تقليم مخالب هذا النظام وتطويعه ، فإذا تمكنت من ذلك ديبلوماسياً فسيكفيها ذلك مشقة الحل الخشن والذي ستكون كلفته عالية ولا شك .
وبصورة موازية لهذه السياسة كان لا بد من مواصلة تكسير وإضعاف أذرع إيران ومخازن أسلحتها الضخمة والاستراتيجية في المناطق التي تسيطر عليها هذه الاذرع ، ومنها اليمن حيث أخذت إيران تتوسع في تخزين وتكديس الطائرات المسيرة والصواريخ بصورة لا يمكن لأي عاقل أن يصدق أن المليشيات الحوثية قادرة على تملك وإدارة هذه الترسانة الضخمة والمعقدة من الاسلحة .
صحيح أن هده العملية تتم تحت شعار حماية الملاحة البحرية في البحر الأحمر وخليج عدن ، وما يرافق ذلك من إعلان عن أن استمراها رهن بتوقف الحوثي عن تعطيل الملاحة في الممرات الدولية ، غير أن الحقيقة هي أن أمريكا ، ومعها المجتمع الدولي ، أدركت خطورة بقاء الحوثي كحارس لهذه المنصة العسكرية الايرانية في هذه المنطقة الحساسة من العالم ، وقررت بسبب ذلك العمل على كسر هذا الجيب الذي عمدت إيران على أن تجعل منه مركز استراتيجي لإعادة تجميع أشلاء أذرعها ، وقد أشرنا إلى هذه المسألة في مقالات سابقة وفي فترة مبكرة .
الحوثي من الناحية العملية هو حصان الرهان الذي تلعب عليه إيران في مفاوضاتها التي ستبدأ يوم السبت ١٣ ابريل بعد أن خسرت أذرعها الأخرى . وهي بكل تأكيد سترضخ للقرار الأمريكي الذي يقضي بمنع انتاج السلاح النووي ، وربما تفكيك البرنامج النووي بأكمله .
"ويتكوف" المبعوث الامريكي ورئيس المفاوضين في مسقط ، قال "قد تكون هناك حاجة لتقديم تنازلات لإيران مقابل تخليها عن البرنامج النووي " ، فهل يكون الحوثي في دائرة ما تفكر فيه أميركا من تنازلات لإيران .
ستسعى إيران للتمسك بهذا " المنجز" ، وستقدم تنازلات بهدف إعادة تحسين صورته بالحديث عن تسوية لا تقوم على أسس سليمة لتمكينه من الاستمرار بصورة تراهن على الوقت وما يحدثه من تغيرات ، يظل فيها اليمن رهنًا بما يستجد وفقًا لهذه المتغيرات .
لذا على اليمنيين أن يتنبهوا لهذا الفخ ويبحثوا مع أشقائهم في المنطقة خطورة أن يكون الحوثي الثمن الذي تطلبه إيران مقابل النووي إرضاء لمؤسسة المرشد والجناح الايديولوجي المتشدد ، كي لا يبدو وكأنه قد هزم في المعركة الداخلية للنظام .