الاتجار باليمنيات... أحلام تتحول إلى كوابيس

تقارير

 

كانت يُمنى ذات الـ 35 ربيعاً تحلم بحياة أفضل لها ولطفلها البالغ ست سنوات، فقد نشأت يتيمة الوالدين في اليمن، ولم تكن تجربتها في الزواج الأول ناجحة، لكن حياتها بعد الطلاق لم تكن أفضل.

ونتيجة لسنوات الحرب الطويلة وظروف الحياة، شعرت بأنها لا تستطيع الاستمرار على هذا النحو، فوافقت على عرض زواج بواسطة "خطّابة" تقدم للنساء والفتيات الراغبات في الزواج عروضاً من رجال يعيشون في دول الخليج.

عرضت الخطابة على يُمنى الزواج من رجل خمسيني ميسور الحال، والذي وافق أن يرافقها طفلها للعيش معها، فوافقت، لكنها اشترطت أن ترى عريسها عبر اتصال مرئي، الأمر الذي ماطلت فيه الخطّابة متذرعة بانشغاله. من حسن حظها ونباهتها، شكت يُمني في الموضوع، فلجأت إلى إحدى صديقاتها التي تعيش في دولة العريس، وطلبت منها تقصي حقيقته، لتكتشف أن الرجل تجاوز السبعين، وأنه مقعد، ويعيش في منزل ولده بعيداً عن مركز المدينة، وليس لديه مصدر دخل، فرفضت العرض.

كانت يُمنى محظوظة، لكن كثيرات غيرها لم يكن بنفس القدر من الحظ، فالبلد الذي مزقته الصراعات المسلحة أصبح أرضاً خصبة لممارسة جرائم الاتجار بالبشر، والفقر البطالة يساهمان في تعرض النساء والفتيات لخطر الاستغلال، لا سيما مع غياب الأمن والاستقرار، وضعف آليات مكافحة الأعمال الإجرامية، ما يسهل على المتاجرين بالبشر استغلال ضعف النساء والفتيات، وإقناعهن بتوفير فرص حياة أفضل تحت غطاء الزواج من أجنبي، أو فرصة عمل لا تعوّض، غير أنهن لا يدركن أن كل تلك العروض ماهي إلا ستار يُخفي وجها آخر للاستغلال الجنسي أو العمل القسري.

وتقع الكثير من النساء والفتيات اليمنيات، واللاجئات إلى اليمن من دول القرن الأفريقي، ضحايا الاتجار بالبشر نتيجة طموح الحصول على حياة أفضل. وأشار تقرير لوزارة الخارجية الأميركية في عام 2022، إلى أن اليمن كانت محطة عبور لمهاجرات من القرن الأفريقي إلى دول الخليج، واللاتي تم استغلال بعضهن من قبل متاجرين بالبشر في أعمال الدعارة القسرية والعمل القسري. وأشار التقرير أيضاً إلى أن الحكومة اليمنية لم تقم بجهود كافية لمواجهة الاتجار بالبشر، معللاً تعرض النساء للاستغلال بأنهن الفئة الأكثر ضعفًا وهشاشة بسبب الحروب والأزمات الإنسانية.

 

تتنوع أشكال الاستغلال الذي يطاول النساء والفتيات في اليمن

ولا توجد أية إحصائيات حول أعداد ضحايا الاتجار بالنساء والفتيات في اليمن، في حين تبلغ عالمياً نسبة 60%، وفق مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة في عام 2023. وتتخطى هذه الجريمة الحدود والثقافات، وتتجاوز كل الإجراءات الموضوعة لحماية الحرية والكرامة الإنسانية، لتصبح واحدة من أخطر الجرائم المنظّمة. لذا وضع البروتوكول الدولي لمنع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، خاصة النساء، تعريفاً دقيقاً يوضح ماهية الجريمة، ولخص صورها في التجنيد، والنقل، والاستغلال القسري من خلال التهديد أو الخداع، أو استغلال الضعف.

وتتنوّع أشكال الاستغلال الذي يطاول النساء والفتيات على وجه الخصوص، ما يجعل من هذه الجريمة أكثر خطورة، ما يستدعي فهم أبعادها وآليات مكافحتها من قبل الجهات الأمنية الوطنية والدولية، والعمل على كبح جماح هذه التجارة، والقبض على تجار ومهربي البشر وتقديمهم للعدالة.

ويزدهر الاتجار بالنساء والفتيات في أوقات الحروب والأزمات، ولا يكون مقصورًا على الاستغلال الجنسي والعمل القسري، بل يجري أيضاً تجنيدهن للقيام ببعض أعمال المليشيات، وهو ما أقدمت عليه جماعة الحوثيين في شمالي اليمن، ومن ذلك القوة النسائية التي يطلق عليها "الزينبيات".

وعلى الرغم من تعدد صور الاتجار بالنساء والفتيات إلا أن الاستغلال الجنسي يعتبر أكثر الأشكال انتشارا، إذ تُجبر الضحايا على الدعارة، أو العمل في إنتاج المواد الإباحية، وغالبا ما يكون ذلك تحت تهديد وعنف نفسي وجسدي. كما أن العمل القسري، يعد شكلا آخر من أشكال العبودية الحديثة الذي تُستغل فيه النساء والفتيات في الأعمال المنزلية الشاقة، أو في المصانع والورش في مقابل أجور زهيدة، أو حتى من دون أجر في ظل ظروف عمل غير إنسانية.

وبلغ عدد ضحايا العمل القسري من النساء والفتيات 11,8 مليونا من أصل 27,6 مليونا وفق تقرير التقديرات العالمية للعبودية الحديثة الذي أعدّته منظمة العمل الدولية والمنظمة الدولية للهجرة في 2022، وورد في التقرير أن عدد النساء والفتيات اللاتي تعرضن للزواج القسري بلغ 14,9 مليونا من أصل 22 مليونا. ويرجع التقرير أسباب زيادة الزواج القسري إلى الفقر وتغير المناخ، وانخفاض معدلات التعليم، والعنف القائم على النوع، والصراعات.

كما أن هناك جانبا مظلما آخر للأعمال غير المشروعة، تجبر فيه النساء والفتيات على الانخراط في جرائم مثل التسوّل، أو السرقة، أو تهريب المخدرات، كما أن شبكات الاتجار بالبشر دخلت نطاق التكنولوجيا الرقمية، وجعلتها وسيلة للقيام بالعديد من الأعمال مثل الإعلانات عن بيع الضحايا عبر الإنترنت بغرض الاستغلال الجنسي، وتداول العملات المشفرة بين المتاجرين بالبشر، واستغلال ضحايا الاتجار بالبشر في عمليات الاحتيال الإلكتروني.

وأشار تقرير مفوضية حقوق الإنسان لعام 2023، إلى أن مئات الآلاف من ضحايا الاتجار بالبشر في جنوب شرق آسيا يتعرضون للتعذيب، والاحتجاز التعسفي، والعنف الجنسي، والعمل القسري بهدف القيام بهذه الأعمال الاحتيالية، ما يحوّل الأمر إلى سلسلة من الانتهاكات المتكررة.

وقد تنبه الإنتربول إلى هذه النشاطات، وأطلق تحذيرا دوليا عن الاحتيال الإلكتروني الذي يذكي ناره الاتجار بالبشر في عام 2023.

أما في الصراعات المسلحة، فإن الاستغلال القسري للنساء يأخذ أشكالًا بشعة، على سبيل المثال: الخضوع لجرائم اغتصاب جماعي مروعة، إجبارهن على المشاركة في أعمال خارجة عن القانون. ولعل الأكثر إيلامًا هو الاتجار بهدف نزع الأعضاء، حيث تُجبر الضحايا على التبرع بأعضائهن تحت الإكراه، ليصبحن مصادر لتحقيق أرباح غير مشروعة.

وتتطلب مواجهة هذه الجرائم نشر الوعي بخطورتها وأساليبها المتعددة، فكل شكل من أشكال الاتجار يكشف عن وجه جديد للمعاناة الإنسانية التي يجب التصدي لها، لاسيما أن ظاهرة الاتجار بالنساء والفتيات من أخطر الجرائم التي تنتهك حقوق الإنسان والكرامة، ويعود انتشارها إلى مجموعة من الأسباب والعوامل المتشابكة التي تجعل الضحايا عرضة للاستغلال والقهر، من بينها أن بعض الأسر تدفع ببناتها إلى هذه الدوّامة في وسيلة للتخفيف من أعبائها الاقتصادية.

ويضاف التمييز والعنف القائم على النوع الاجتماعي إلى المأساة، إذ تُحرم النساء من فرص العمل والتمكين، ما يجعلهن عرضًة للوقوع في شرك من يستغل ضعفهن. كما أن ضعف الحماية التشريعية وغياب الدعم القانوني والنفسي للضحايا يمثل خللًا في مواجهة هذه الجرائم، وهو يؤدي إلى حرمان النساء من بدائل آمنة تحميهن من السقوط في براثن الاستغلال.

وتخلف هذه الجرائم آثاراً عميقة في نفوس النساء والفتيات، فالضحايا يتعرضن إلى إساءات جسدية وجنسية متكررة تحط من كرامتهن، ما يؤدي إلى تدمير صحتهن النفسية والجسدية، وقد يصبن بأمراض خطيرة أ واضطرابات نفسية نتيجة للمعاملة القاسية والانتهاكات، فضلاً عن الانحراف السلوكي في ظل غياب الرعاية وإعادة التأهيل.

 

انتهاكات جسيمة تعرضت لها نساء اليمن خلال الحرب

وتؤدي الآثار الاجتماعية لهذه الانتهاكات الجسيمة إلى تفكك النسيج الأسري، وانفصال الضحايا عن مجتمعاتهن المحلية. لذلك يجب التأكيد على ضرورة تكثيف الجهود الوطنية والدولية لمكافحة هذه الجرائم والحد من انتشارها الذي يضعف هيبة الدولة، ويزيد من الجريمة المنظمة العابرة للحدود.

ولا يمكن أن نغفل التأثير السلبي لغياب التوعية والتوجيه والرقابة الأسرية في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي تحوّلت إلى منصات يوظفها المتاجرون بالبشر لاستدراج الضحايا بوسائل مثل عروض الزواج في الخارج، وفرص العمل الوهمية، والاحتيال الإلكتروني، وما هذه الأعمال إلا غطاء لاستغلال الأشخاص في أعمال غير مشروعة.

ولا يمكن النظر إلى مكافحة الاتجار بالبشر، خاصة النساء والفتيات، على أنها مجرد تحدٍّ أمني أو قانوني، بل هي مسؤولية إنسانية وأخلاقية، وبالتالي يجب على السلطات في اليمن تكثيف جهودها في الجانب التشريعي والتنفيذي لمواجهة هذه الجريمة  من خلال سن قانون رادع يُجرّم ويعاقب جميع أشكال الاتجار بالبشر، ويضمن حماية حقوق الضحايا، وتعزيز آليات الرقابة، ومساءلة المتورطين وتقديمهم للعدالة، كما أن عليها الاستثمار في برامج دعم الضحايا من خلال توفير المأوى الآمن، والدعم النفسي، والرعاية الصحية، وإعادة التأهيل.

ويظل تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية هو المفتاح لمعالجة الأسباب الجذرية مثل الفقر والتمييز، والتي تجعل النساء والفتيات أكثر عرضة للاستغلال، كما ينبغي أن يكون للمجتمع دور في التصدي لهذه الجرائم العابرة للحدود، فالتوعية بمخاطر الاتجار بالبشر تبدأ من الأسرة من خلال حماية النساء والفتيات من الوقوع في فخاخ الاستغلال، كما يقع على الأسرة واجب الدعم، والتشجيع على التحدث حال التعرض لأي محاولة استغلال، وعلى الأسرة ألا تتردد في التبليغ عن أي حالات مشبوهة أو مظاهر استغلال، لأن الصمت يجعلنا شركاء في تفاقم المعاناة.

 

 

"حاصلة على دكتوراه في القانون الجنائي من جامعة عين شمس وعضو هيئة التدريس في جامعة عدن"