لم يكن جنوب الوطن بالنسبة لي يومًا مجرّد لافتة سياسية تُرفع عند الأزمات، ولا هوية طارئة يُعاد تعريفها بحسب موازين القوة، ولا “ماركة” قابلة للتداول في سوق الصراعات. جنوبنا اليمني عرفته مبكرًا بوصفه فضاءً إنسانيًا ووطنيًا مفتوحًا، تشكّل فيه الوعي اليمني الحديث، لا بوصفه مشروع عزلة أو قطيعة مع بقية الوطن.
عرفت الجنوب من خلال والدي، الذي غادر في سنٍّ مبكرة إلى عدن طلبًا للرزق، فعاش فيها حياة الناس، وتعلّم في مساجدها، وتتلمذ على يد الإمام محمد سالم البيحاني، وارتاد مسجد العسقلاني والمعهد العلمي الإسلامي، وحضر حلقات العلم في مسجد العيدروس. هناك تشكّل وعيه، وهناك تشكّلت علاقته بعدن بوصفها مدينة جامعة، لا مدينة مغلقة، وحاضنة للعلم والعمل والنضال الوطني. وُلدت وعشت في منطقة هي أقرب إلى عدن في الجغرافيا والعادات واللهجة والوشائج الاجتماعية من كثير من مناطق الجنوب نفسها. فما بين الحجرية وعدن تشابه في نمط الحياة، وتداخل في الأنساب، وتقارب في اللهجة، وامتداد في العلاقات العائلية. هذه الحقائق الاجتماعية والتاريخية لا يمكن محوها بخطاب سياسي مستجد، ولا بإعادة رسم الهوية على أسس إقصائية مصطنعة. لقد كانت عدن، تاريخيًا، مهد الحركات الوطنية اليمنية بكل تنوعاتها الأيديولوجية: الإسلامية، واليسارية، والقومية. ومنها انطلقت مشاريع التحرر الوطني، ومنها تشكّل الوعي الوحدوي بوصفه هدفًا نبيلًا ومشتركًا. لم تكن الوحدة اليمنية مشروع تيار بعينه، ولا حكرًا على أيديولوجيا واحدة، بل كانت قضية جامعة لمعظم الحركات الوطنية التي نشأت في عدن، عدا تلك الدعوات التي كانت تمثل أقلية نخبوية مرتبطة بالمستعمر. وكان أبناء عدن والجنوب عمومًا عمادها الأساسي، جنبًا إلى جنب مع أبناء تعز والحجرية والشمال بشكل عام. الجبهة الوطنية المتحدة، والجبهة القومية، وجبهة التحرير، والحركة الإسلامية الإصلاحية، وغيرها من المكونات السياسية والنضالية، رفعت شعار الوحدة اليمنية بوصفه هدفًا استراتيجيًا للتحرر وبناء الدولة، لا تكتيكًا عابرًا ولا ورقة ضغط. كانت الوحدة تعبيرًا عن إدراك عميق بأن اليمن لا يمكن أن ينهض مجزّأً، ولا أن يواجه الاستعمار والتبعية إلا بوصفه كيانًا واحدًا، متنوعًا في مكوناته، موحّدًا في مصيره. الأجيال السابقة نشأت على هذا الوعي، لا بوصفه دعاية سياسية، بل حقيقة راسخة. أما الأجيال اللاحقة، فقد وُلدت وترعرعت في ظل دولة الوحدة، وعرفت اليمن بوصفه إطارًا جامعًا للحياة والتعليم والعمل، رغم الإخفاقات الجسيمة التي رافقت تجربة الدولة بعد عام 1990. ولهذا، فإن تصوير الانفصال اليوم بوصفه استجابة طبيعية لوعي جنوبي أصيل يتجاهل هذا التاريخ الوحدوي العميق. التفريق بين الشمال والجنوب لم يكن يومًا قدرًا تاريخيًا، بل سياسة استعمارية استُخدمت لتفكيك المجتمع اليمني. وقبل أن تُستخدم هذه السياسة على مستوى اليمن كله، استُخدمت داخل الجنوب ذاته، عبر السلطنات والمشيخات، وتمزيق المناطق، وإعادة إنتاج الهويات الضيقة. وما يجري اليوم ليس إلا إعادة تدوير لهذه السياسة بأدوات جديدة وخطاب مختلف. المفارقة أن الانفصاليين، وبالأخص التيار الاشتراكي المزيّف، يصرّون بإصرار لافت على أنهم الممثلون الحصريون للجنوب، والمتحدثون باسمه، والمخوّلون وحدهم بتحديد مصيره. لا شريك لهم، ولا رأي آخر يُسمع. يريدون إعادة تأسيس “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”، ولكن بلا جمهورية حقيقية، ولا ديمقراطية فعلية، ولا شعبية، بل وبلا يمن أصلًا، حتى لا تُغضب كلمة “يمن” كفيلًا سلطانيًا لا يؤمن بالجمهورية ولا بالديمقراطية، ولا يعترف بالشعوب إلا بوصفها أدوات. قصة “الماركة الجنوبية” لم تولد من رحم مظلومية خالصة، بل صاغتها بامتياز العقول الاشتراكية في المرحلة الانتقالية بعد الوحدة. وكلما اقتربت الانتخابات، أو تفجّرت الخلافات بين شريكي الوحدة اللذين تعاملا مع الدولة كملكية خاصة، كان جوهر الصراع يدور حول اقتسام النفوذ: بالتساوي؟ بعدد السكان؟ بالمساحة؟ لا حول بناء دولة، ولا حول شراكة وطنية حقيقية وفق ممارسة ديمقراطية صحيحة، لا تلك المفرغة من حقيقتها كما فُرضت على اليمنيين. وحين طُرحت فكرة دمج الحزبين في حزب واحد ليستمرّا في حكم اليمن إلى ما لا نهاية، سقط المشروع بسبب معارضة داخل الحزب الاشتراكي نفسه، رغم حماسة علي سالم البيض والدائرة المحيطة به، الذين كانوا يدركون جيدًا لعبة “النفق” في جولدمور، حين اتفق الرجلان على تقاسم النفوذ لا على بناء وطن. في هذا السياق، يبرز ما يمكن تسميته بـ التيار الاشتراكي المزيّف، الذي تخلى عمليًا عن مشروع الوحدة اليمنية، رغم أنه كان شعاره الخالد طوال تاريخه السياسي. هذا التيار، الذي نشأ وتكوّن في رحم الحركة الوطنية الوحدوية، انقلب على إرثه الفكري والسياسي، وتبنّى أيديولوجيا أقرب إلى “رابطة أبناء الجنوب العربي”، التي تتنكر لهوية الجنوب اليمني، وتعيد ربطه بهوية خارج سياق التاريخ والجغرافيا اليمنية، وتتعامل مع الجنوب ككيان منفصل عن محيطه الطبيعي. هذا التحول لم يكن مجرد مراجعة فكرية، بل قطيعة أيديولوجية مع المشروع الوطني الجامع، وانزلاقًا نحو خطاب يستبدل الهوية اليمنية بهوية مصطنعة، تُفصل عن تاريخها، وتُعاد صياغتها لتخدم مشروعًا سياسيًا مدعومًا من الخارج. ومن هنا جاء الإصرار على احتكار تمثيل الجنوب، وادعاء الحديث باسمه دون تفويض شعبي، واعتبار أي رأي مخالف خيانة أو عمالة. في مرحلة لاحقة، برز الحراك الجنوبي بمطالب مشروعة عبّرت عن مظالم حقوقية حقيقية. غير أن هذا المسار انحرف تدريجيًا من المطالبة بالحقوق إلى مشروع انفصال حزبي مناطقي مفروض بالقوة، تقوده قوى لا تؤمن أصلًا بالعمل السياسي السلمي. فالمجلس الانتقالي، الذي تصدّر المشهد، ليس حزبًا سياسيًا يخضع لقانون الأحزاب، بل كيان مسلح يمتلك تشكيلات عسكرية وأمنية متعددة، أُنشئت خارج إطار الدولة، وبتمويل وتسليح خارجيَّين، لفرض واقع سياسي بالقوة. في لقاء تلفزيوني، أقرّ عيدروس الزبيدي بأن الشعب في الجنوب هو من يقرر مصيره، لا هو ولا مجلسه. هذا الكلام، في ظاهره، يبدو ديمقراطيًا، لكن الواقع منذ أكثر من عشر سنوات يقول عكس ذلك تمامًا؛ فالحراك انحرف من المطالبة بالحقوق إلى مشروع انفصال مفروض بالقوة. إن الجنوب اليوم يُدار بسلطة أمر واقع، تُفرض فيها الهيئات السياسية والعسكرية والأمنية والنقابية بالقوة، ويُقدَّم فيها زعيم المجلس بصفته “الرئيس القائد”. وفي مثل هذه الظروف، يصبح الحديث عن تقرير مصير حر مجرد شعار للاستهلاك الإعلامي؛ لأن السلاح لا يتيح حرية الاختيار، بل يصادرها. إن تقرير مصير وحدة اليمن لا يمكن أن يكون قرارًا تتخذه نخبة مسلحة أو مجلس غير منتخب. هذا القرار، إن طُرح أصلًا، هو شأن يخص الشعب اليمني كله. وحتى إذا جرى تخصيص النقاش بأبناء المحافظات الجنوبية، فلا بد أن يتم ذلك في بيئة محايدة، بلا وصاية عسكرية، ولا هيمنة مناطقية أو قبلية، وبمشاركة الجنوبيين في الداخل والخارج، حيثما وجدوا. ما يجري اليوم في جنوب اليمن تجاوز كونه قضية حقوق أو مظالم، ليصبح مشروع نفوذ إقليمي، تتخفّى فيه الهيمنة الخارجية خلف واجهات محلية، أبرزها المجلس الانتقالي وبقايا التيار الاشتراكي المزيف، اللذان تحوّلا إلى أدوات لتنفيذ أجندة لا ترى في الجنوب إلا ساحة نفوذ، ولا في أبنائه إلا وقودًا لمعارك الآخرين. الجنوب، في جوهره، ليس ملكًا لمجلس، ولا حكرًا على أيديولوجيا، ولا ورقة تفاوض بيد كفيل. هو جزء أصيل من اليمن، شكّل مع غيره من المناطق قلب المشروع الوطني الوحدوي. ومن أراد إنصاف الجنوب حقًا، فليبدأ بفضّ الاشتباك بينه وبين مقاولي فكّ الارتباط، وإعادة الاعتبار لتاريخه الوحدوي، وإرادة أهله الحرة، بعيدًا عن السلاح، وبعيدًا عن الوصاية، وبعيدًا عن الأوهام.

