لو قيل لكَ قبلَ أربعين عاماً من الآن، وأنتَ المطبوع في ذهنك صورة الجيوش العربيّة التي لم تصمد أمام جيش الاحتلال أكثر من ستِّ ساعاتٍ، أنَّ شيخاً قعيداً على كرسيٍّ مدولبٍ، بصدد أن يُنشىءَ حركةً لتقفَ بوجه هذا الاحتلال، أكنتَ تُصدِّق ؟! ولكنَّه قد كان، فصدِّق!
لو قيلَ لكَ أنَّ هذا الشيخ، وهو على كرسيّه هذا، سيهزُّ أركان دولةٍ هي الابنة المدللة لهذا الكوكب، وأنّه سيكون من الخطورة بمكانٍ أن تنتظره طائرات الأباتشي عند عتبة المسجد وهو خارجٌ من صلاة الفجر، لأنّها رأتْ أن دواليب كرسيّه أقوى من جنازير دباباتها، أكنتَ تُصدِّقْ، ولكنَّه قد كان فصدِّقْ!
لو قيلَ لكَ أنَّ الأمرَ قد بدأَ بحجرٍ وسكّين وزجاجة حارقة، ومُسدَّسٍ وحيد لا يثبتُ مشط رصاصه فيه إلا إذا أسندته بكفِّ يدكَ، أكنتَ تُصدِّق؟! ولكنَّه قد كان فصدِّقْ!
لو قيل لكَ أنَّ هؤلاء الذي يسيرون بعكسِ نظامِ الكونِ، وسُننِ الأشياءِ، الغريبون كجدولِ ماءٍ يتسلَّقُ جبلاً بدل أن ينحدرَ منه، وأنت الذي تعرفُ أنَّ الجداولَ لا يمكنها أن تتسلّقَ الجبالَ، قد قرروا أن ينتقلوا من الحجرِ والسّكينِ والزجاجةِ الحارقةِ إلى صنعِ صاروخهم البدائيّ الأول أكنتَ تُصدِّق؟! ولكنّه قد كان، فصدِّقْ!
وإنَّه لو قيل لكَ إنَّ رجلاً كان يُدرّسُ في جامعة فرجينيا للتّقنيّة، قد نظرَ إلى ذاك الصاروخ البدائي في مدينته، فقال في نفسّه: ماذا أفعلُ هنا وهم يحتاجونني هناك، سأقلِبُ المعادلة! عادَ وأعملَ جمجمته، وصبَّ كل ذرّةٍ من كيانه وهو يُطوّرُ منظومةَ صواريخِ المقاومة، فلم ينلْ وسامَ الشّهادةِ إلا وكان قد رأى صاروخه الأثيرَ على قلبه، عيّاش ٢٥٠! لم تقرأ رقماً خاطئاً، هذا الرجل قصف مطاراً على بعد ٢٥٠ كلم من مدينته المحاصرّة، أكنتَ تُصدّقُ لو قيل لك كل هذا؟! ولكنّه قد كان فصدِّقْ!
لو قيل لكَ إنّ أولئكَ الثُّلّة القِلَّة الذين بدأوا الأمرَ بالحجر والسّكين والزجاجة الحارقة، قد صاروا في بِضعَ سنين، بضعَ سنين فقط، وهم تحت الحصار جيشاً جرَّاراً، ألويةٌ وفِرقٌ وكتائب، نُخبة وكتيبة حُفّاظٍ، وحدة صواريخ ووحدة ظلٍّ واستخبارات، ضفادع بشريّة وسلاح هندسة، كتيبة مسيّراتٍ وسلاح إشارة، أكنتَ تُصدِّقْ، ولكنّه قد كان فصدّق!
لو قيل لكَ إنه وفي يوم وعلى غفلةٍ من العالم كلّه، هؤلاء أنفسهم الذين بدأوا الأمر بالحجر والسّكين والزجاجة الحارقة قد أبادوا فرقة غزَّة في جيش الاحتلال عن بكرة أبيها في أربعين دقيقة، داسوا رؤوس الجنود بأحذيتهم، قتلوا وأسروا وأثخنوا، أكنتَ تُصدِّق، ولكنّه قد كان فصدِّقْ!
لو قيل لكَ قبل عامٍ أن بضعة رجالٍ محاصرين سيصنعون طائرة وينقضُّوا على أقوى جيشٍ في المنطقة، هل كنتَ تُصدِّق؟ لو قيل لكَ قبل عامٍ أن الطائرة التي صنعوها في ورش الحدادة ستُحلّق فعلاً، لن ترصدها الأقمار الصّناعية، وستُفلتُ من الرادارات، أكنتَ تُصدّق؟ ولكنك الآن تعلم أنهم صنعوا معجزة!
ولو قيلَ لكَ الآن أنّ هذه العصابة لن تُكسرَ أبداً، وأنه لن يطول الوقت حتى تراهم في باحات المسجد الأقصى، فلربما لن تُصدِّق، ولكن والذي خلقَ السماوات والأرض أنَّ هذا سيكون، فصدِّقْ!