في رثاء من التقيته مرة واحدة : فؤاد الحميري
لقاءٌ أول لم يكن له ثانٍ .
ورغم أني تأملتُ، وتمنيت، وترقبت،
ظلّ اللقاء الوحيد شاهداً على عبور نجمٍ في سماء العمر .
لامسني ثم مضى.
نسيتُ ملامحه، نعم .
لكنّ تعابير وجهه ما زالت مطبوعةً في ذاكرتي كوشمٍ قديم .
وصمته، ذلك الصمت الذي كان أبلغ من كل حديث : صمتٌ يفيض بعنفوان تعز ، وبخُضْرةِ إبّ ، وبوقار اليمانيّ الحكيم.
كان حضوره أكبر من مكانه .
وصوته الداخليّ يعلو على الضجيج من حوله.
كأن الزمن أودع فيه حكمةً لا تليق إلا بالشيوخ ، لكنها استقرت في قلب شابٍّ،
يعرف كيف يقطّر التاريخ في بيت شعر،
وكيف يزرع الأمل في كلمة.
التقينا هنا، في الدوحة، في بدايات الربيع الربيع .
ربيع لم نكن نعرف مآلاته بعد . بعضنا رآه دليلاً على المروج ، وبعضنا رآه دليلاً على البركان .
كان مملوءًا بالأمل ، أما أنا فكنت منشغلًا بالمساهة في تنفيذ احلام وخطط الدولة، ببناءٍ وإرثٍ للمستقبل .
كنا نرى المشهد من نافذتين مختلفتين،
لكن الحلم كان واحدًا ،
والمحبّة كانت واحدة ،
والشعر كان يجمعنا كما يجمع النهرُ الغيمَ والضفاف .
كان من طينة من يجبرك على ألا تنساه،
ومن معدن من تهاب أن تسيء إليه ولو بنظرة.
في حضرته، كنتَ تختبر صمتك من جديد ، وترتب لغتك قبل أن تقولها،
فهو لا يحب الزيف ،ولا يجامل في الحق.
أمس، رحل.
تسلل من بين أيدي الحياة كما يفعل الكبار، في هدوء لا يليق إلا بالأنبياء والشعراء.
رحل ، وترك صدى صوته الأخير عالقًا في الذاكرة، كأننا لم نفترق إلا قبل دقائق.
مات الشاعر الذي التقيته مرة واحدة،
لكنه، في تلك المرة،
اختصر اللقاءات كلها،
وغرس شيئًا من روحه في قلبي،
وسيمضي معي ما حييت.
سلامٌ عليك أيها الشاعر،
في غيابك كما في حضورك،
وسلامٌ على الذين يشبهونك،
قلائل هم،
لكنّهم يملؤون الوجود،
ولو لم نرَهم إلا مرةً واحدة .
محمد المرزوقي - الدوحة