اللافت في توجيهات رئيس الوزراء أنها لم تكن مجرد تعليمات إدارية تقليدية، بل حملت نبرة حازمة ومباشرة تعكس إدراك الحكومة لحجم الاستياء الشعبي من طريقة إدارة ملف الحج والعمرة في السنوات الأخيرة. فالقضية لم تعد تتعلق فقط بسوء تنظيم أو تذمر موسمي، بل باتت مرتبطة بمصداقية الحكومة ومبدأ الشفافية في إدارة المال العام.
لكن، رغم مرور أسابيع على هذه التوجيهات، لم تظهر حتى اللحظة أي مؤشرات فعلية على البدء بتنفيذ المصفوفة الإصلاحية، أو الكشف عن مراجعات مالية أو تقارير تقييم شفافة، سواء من الوزارة أو الجهات الرقابية ذات العلاقة. ويُخشى أن تتحول هذه التوجيهات إلى مجرد "حبر على ورق"، ما لم يُرافقها إرادة سياسية صلبة وآليات رقابة مستقلة.
أرقام تثير الريبة: غياب للشفافية وتضخم في التكاليف
الرسوم التشغيلية التي فرضتها وزارة الأوقاف هذا العام تُعد الأعلى في تاريخ الحج اليمني، وهو أمر يثير الكثير من التساؤلات، خصوصًا في ظل غياب تحسين ملموس في الخدمات. فالشكاوى من رداءة السكن في مكة والمدينة، وسوء التغذية، وضعف الإشراف، وغياب الأطباء، تتكرر في كل موسم.
ما يزيد من القلق، هو أن هذه الإيرادات – التي تجاوزت 70 مليون ريال سعودي – لم تُعلن عنها الوزارة رسميًا، ولم تصدر بشأنها أي بيان مالي يوضح تفاصيل صرفها، أو ما إذا كانت قد دخلت خزينة الدولة، أو ذهبت لمصارف أخرى غير خاضعة للرقابة.
تساؤلات مشروعة أم اتهامات ثقيلة؟
الجدل الدائر الآن لا يدور في فراغ، بل يستند إلى وقائع ميدانية وشهادات مباشرة من الحجاج، إلى جانب مطالب حقوقية وشعبية بفتح هذا الملف للمراجعة، والأسئلة المشروعة المطروحة كثيرة:
- ما المعيار في اختيار المشرفين والمرشدين؟
- هل خضعت عمليات التعاقد لمبدأ المنافسة والشفافية؟
- من يراجع هذه العقود؟ ومن يراقب تنفيذها؟
- لماذا لم تُنشر بعد أي بيانات مالية أو تقارير تقييمية لموسم الحج؟
موسم الحج... خدمة أم مورد دخل؟
يتهم كثيرون وزارة الأوقاف بالتعامل مع الحج كـ"مورد دخل" أكثر من كونه خدمة دينية وإنسانية مقدسة. فإلى جانب الرسوم التشغيلية المرتفعة، تفرض الوزارة أحيانًا رسومًا غير مبررة على الحجاج، تشمل النقل الداخلي، والخدمات اللوجستية، والإرشاد، دون رقابة أو تقييم.
ويخشى مراقبون أن يتحول ملف الحج إلى ساحة مغلقة، بعيدة عن الشفافية والرقابة المؤسسية، في الوقت الذي ينبغي أن يكون فيه أنموذجًا للانضباط والمحاسبة، باعتباره ملفًا يخص آلاف المواطنين ويستند إلى فريضة دينية عظيمة.
هل تتكرر التجاوزات في العمرة أيضاً؟
التساؤلات لا تقف عند موسم الحج، بل تمتد إلى ملف العمرة، الذي يعاني بدوره من غياب واضح في الرقابة، وسط انتشار وكالات غير مرخصة، وعمليات نصب واحتيال على المعتمرين، في ظل قصور واضح من وزارة الأوقاف في مراقبة وتنظيم هذا النشاط، رغم ما يجلبه من دخل لا يُستهان به.
يتساءل الكثيرون ما المطلوب الآن؟
- إعلان تقرير مالي علني وشفاف عن موسم الحج، يشمل الإيرادات والمصروفات وكشفاً تفصيلياً بالجهات المستفيدة.
- تنفيذ المصفوفة الإصلاحية المتفق عليها فورا، والبدء بمراجعة شاملة لكل العقود والإجراءات السابقة.
- إشراك وكالات الحج والعمرة في صنع القرار وإعادة بناء الثقة مع القطاع الخاص.
- مراجعة الرسوم المفروضة على الحجاج والمعتمرين، وإلغاء أي بنود غير مبررة.
- تشكيل لجنة رقابية مستقلة تضم ممثلين عن المجتمع المدني لمراقبة تنفيذ الإجراءات.
الإصلاح أو الانفجار الشعبي
ملف الحج والعمرة ليس مجرد شأن تنظيمي موسمي، بل هو واجهة حقيقية لقدرة الدولة على حماية المواطن وخدمته بعدل وكرامة، وفي بلد يئن تحت الحرب والانقسام والظروف الإنسانية القاسية، يصبح من غير المقبول أن يُثقل كاهل الحجاج والمعتمرين برسوم باهظة، دون أن يُقابل ذلك بخدمات تليق بمكانة "ضيف الرحمن".
إذا لم تتحرك وزارة الأوقاف بسرعة وشفافية، وتستجيب بجدية لتوجيهات رئيس الوزراء، فإن ثقة الناس ستتآكل أكثر، وسيتحول موسم الحج إلى ساحة أخرى للاحتجاج والمحاسبة الشعبية.
فهل يفي الوزير شبيبة وفريقه بوعد الإصلاح، ويحولون شعار "خدمة الحاج شرف وأمانة" من كلمات مرفوعة إلى واقع ملموس؟
أم يظل الشعار مجرد لافتة براقة تخفي وراءها اختلالات متراكمة، وملفا لا يزال بحاجة إلى شفافية وجرأة في المواجهة؟
الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة.