في مدينة إب، حيث يفترض أن تنمو الحياة على ضفاف الجبال الخضراء وتحتشد الأزقة برائحة القهوة اليمنية، تخنق ميليشيا الحوثي آخر أنفاس الأمل، وتوزع الموت على دفعات: بالرصاص تارة، وبالحديد والسجون والنهب والتجنيد تارات كثيرة.
في السنوات الأخيرة، تحولت إب من مدينة للسلام إلى مقبرة للأصوات، ساحة تجارب للبطش، ومختبر يومي لصناعة الألم. أكثر من 3519 انتهاكًا وثقها تقرير صادر عن الشبكة اليمنية للحقوق والحريات بين يناير 2020 ومارس 2023. وكل رقم في هذا التقرير ليس إحصائية مجردة، بل قصة نزفت، وبيت تمزق، وأم ما زالت تبكي ابنها خلف الأسوار.
دماء تحت الشجر
213 قتيلًا من المدنيين سقطوا بنيران الميليشيا، بينهم نساء خرجن لجلب الماء، وأطفال لم يتعلموا بعد كيف يتهجون كلمة "حرب".
و189 جريحًا، بعضهم فقد عينه، وبعضهم رجله، وآخر فقد ذاكرته بعد أن ذاق ألوان العذاب.
582 مختطفًا لا تزال صورهم معلقة على جدران بيوتهم، منهم من اختطف من باب المسجد، ومنهم من داهمته المليشيا في منتصف الليل، و123 منهم ما زالوا يتنفسون العفن في زنازين الحوثي.
ولم يكتفوا بالخطف، بل عُذب 65 منهم حتى انهار الجسد، و9 منهم ماتوا وهم يتوسلون قطرة ماء أو نسمة هواء. التعذيب ليس فعلاً، بل سياسة، مهنة تُمارس في السجون كما تُمارس السياسة في القاعات.
الاغتيالات.. وقصص مغدورة
13 جريمة اغتيال نفذتها الميليشيا ضد خصومها السياسيين والاجتماعيين، و9 جرائم تصفية لمن رفض السير في الطابور. هؤلاء لم يُقتلوا فقط، بل شُيعت معهم قيم القبيلة والدولة والعدالة.
المنازل لم تنجُ، 12 منزلًا دُمّرت، و65 مزرعة نُهبت، و38 سيارة اختفت في وضح النهار. حتى خزانات المياه، آخر ملاذ للفقراء، لم تسلم، فقد تم تدمير خزانين كانا يسقيان حيًا بأكمله.
مدارس تحولت إلى زنازين
في عالم الحوثي، المدرسة ليست مكانًا للتعليم، بل فرصة للسيطرة.
32 مدرسة اقتحمتها الميليشيا، وحوّلت 9 منها إلى سجون، ينام فيها المختطفون على بلاط الطباشير القديم، بينما يُدرَّس في المدارس المتبقية "ملازم حسين الحوثي" بدلًا من علوم الحياة.
الأطفال في زي العسكر
في إب، 1322 طفلًا أُخذوا من أحضان أمهاتهم وزُج بهم في جبهات الموت.
بعضهم كان يرعى الأغنام، وبعضهم لا يعرف الفرق بين "كلاشينكوف" و"سبورة"، لكنهم اليوم في خطوط النار، يموتون بصمت، ويُدفنون بصمت أكبر.
سكان يُقمعون.. وخرائط تتغير
الانتهاكات لم تكن جسدية فقط، بل امتدت إلى النسيج الاجتماعي ذاته.
في ذكرى ثورة 26 سبتمبر 2024، شنت الميليشيا حملة اختطافات جماعية طالت شيوخًا وأطفالًا وطلابًا.
وفي الوقت نفسه، تصاعدت النزاعات القبلية بنسبة 60%، بعدما صادرت الميليشيا أراضي الأهالي لصالح مقربين منها.
يريد الحوثي إعادة رسم خريطة إب على مقاسه الطائفي والسياسي، حتى لو اقتضى الأمر أن تمحى قرى بأكملها من الذاكرة.
سجون رطبة.. وشهادات من الجحيم
السجون الحوثية ليست أماكن اعتقال، بل مقابر باردة للكرامة.
منظمة رايتس رادار وثقت تعذيب 161 مختطفًا، قضى منهم 47 تحت التعذيب.
أحد الناجين من سجن في إب قال: "في الزنزانة، لا تعرف الفرق بين الليل والنهار، لكنك تعرف جيدًا أنك في الجحيم. كانوا يتعاملون معنا كما لو كنا أعداءهم في معركة لا تنتهي".
إن ما يجري في إب ليس فقط انتهاكًا لحقوق الإنسان، بل جريمة موثقة بالصوت والدم والحبر.
وإذا ظل الصمت هو اللغة الوحيدة في مواجهة هذه المأساة، فإن ميليشيا الحوثي ستستمر في تقطيع أوصال اليمن محافظة محافظة، وقلبًا قلبًا.