بلغة لا تحتمل التأويل، أطلقت الولايات المتحدة تحذيرًا شديد اللهجة ضد أي تعامل دولي مع الموانئ اليمنية الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي، وفي مقدمتها ميناء الحديدة، في خطوة وصفت بأنها تصعيد اقتصادي/قانوني يستهدف كسر عمود التمويل المالي للجماعة المصنّفة مؤخرًا كـ"منظمة إرهابية أجنبية".
في بيان رسمي، قالت تامي بروس، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، إن "أي دعم لوجستي أو اقتصادي للحوثيين، بما في ذلك تزويد السفن بالنفط أو تفريغ البضائع في الموانئ التي يسيطرون عليها، يُعد انتهاكًا مباشرًا للقانون الأميركي".
إعادة تصنيف وتكريس أدوات الردع
جاء هذا التحذير بعد أسابيع من إعادة إدارة ترامب تصنيف الحوثيين على قائمة الإرهاب في 5 مارس 2025، ما أعطى واشنطن أدوات قانونية أشد قسوة لضرب الشبكات المالية واللوجستية التي يعتمد عليها الحوثيون في تمويل آلة الحرب.
وكانت الخارجية الأميركية قد أكدت في وقت سابق أن الحوثيين "يُهددون أمن المدنيين، والمصالح الأميركية في الشرق الأوسط، واستقرار التجارة البحرية الدولية"، خصوصًا في ظل تصاعد الهجمات التي تشنها الجماعة على السفن في البحر الأحمر.
ميناء الحديدة.. من شريان إنساني إلى "وريد الحرب"
ليس جديدًا أن ميناء الحديدة يمثّل الرافعة المالية الأكبر للحوثيين؛ فالميناء الذي يمر عبره أكثر من 80٪ من واردات اليمن، تحول خلال سنوات الحرب إلى منجم لا ينضب لتمويل الجبهات.
تشير تقارير دولية إلى أن الحوثيين يجنون ما بين 1.5 إلى 2.5 مليار دولار سنويًا من رسوم الشحن، والجبايات، وعوائد تجارة الوقود، التي تدار ضمن اقتصاد موازٍ يُدار بعيدًا عن مؤسسات الدولة.
لذا، فإن التحذير الأميركي لا يستهدف فقط الميناء كمنشأة، بل يضرب صميم اقتصاد الحرب الحوثي، ويبعث برسالة صريحة:
"لا تطبيع مع جماعة إرهابية، لا دعم تحت غطاء إنساني، ولا عبور آمن للتمويل عبر بوابات المساعدات".
مفاعيل التحذير.. من التجار إلى الأمم المتحدة
إن مفاعيل هذا التحذير متعددة المستويات، تبدأ بالتجار وشركات النقل البحري، الذين قد يواجهون عقوبات تشمل تجميد الأصول، وإدراجهم في القوائم السوداء، وقطعهم عن النظام المالي الأميركي والدولي في حال تعاملوا مع الموانئ الخاضعة للحوثيين.
كما يشمل التحذير بشكل غير مباشر الأمم المتحدة، التي ما زالت تدير آلية تفتيش السفن في البحر الأحمر (UNVIM)، دون مساءلة الحوثيين عن استخدام الميناء كمصدر تمويل للحرب.
في هذا السياق، يأتي التحذير الأميركي كنوع من الضغط على المنظمات الدولية لإعادة تقييم تعاطيها مع الحوثيين، خصوصًا بعد تقارير عدة، من بينها تقرير لمجلة National Interest، اتهمت فيه الأمم المتحدة ووكالات إغاثية دولية بالمساهمة غير المباشرة في تمويل الميليشيا عبر برامج المساعدات.
واشنطن تضرب في الوقت الحرج
يتزامن التصعيد الأميركي مع هجمات جوية تشنها القوات الأميركية على مواقع الحوثيين في صنعاء والحديدة منذ منتصف مارس، ما يعني أن التحذير هو جزء من حملة أميركية متكاملة تشمل البُعد العسكري، الاقتصادي، والدبلوماسي.
والواضح أن واشنطن لا تكتفي برد الفعل على الهجمات الحوثية، بل تسعى لعزل الجماعة عن مصادر تمويلها الدولية، وكسر حلقة الدعم المالي عبر القانون الدولي، ورسائل الترهيب للشركات والدول المتعاملة معها.
ارتدادات محتملة.. بين الخنق والبدائل القذرة
إذا التزمت الأطراف الدولية بالتحذير الأميركي، فإن الحوثيين سيواجهون:
- تقلصًا حادًا في العملات الأجنبية التي يجنوها من الميناء.
- تراجعًا في تجارة السوق السوداء للوقود، وهو أحد أعمدة تمويلهم.
- ضغطًا على جبهات القتال نتيجة انخفاض القدرة على دفع المرتبات والتمويل اللوجستي.
- توترًا داخليًا متزايدًا نتيجة الاتجاه نحو تعويض العجز من خلال فرض جبايات إضافية على السكان المحليين.
- تزايد محاولات التهريب والتصعيد العسكري كمحاولة للهروب إلى الأمام.
بين العقوبات والواقع.. اختبار لقدرة الحوثيين على التكيف
غير أن الجماعة التي تتقن فن العيش على الحافة، والتمويل بالطرق غير المشروعة، قد تلجأ إلى بدائل تمويلية عبر التهريب، أو محاولة فرض وقائع جديدة عسكريًا، خاصة إذا شعرت أن الخناق يشتد حولها.
كما أن موقف بعض الدول، كإيران، أو كيانات دولية تسعى لحلول وسط، قد يحدد مدى نجاح التحذير الأميركي في تحقيق أهدافه.
خلاصة المشهد
التحذير الأميركي ليس مجرد بيان غاضب، بل هو إعلان سياسة ردع صارمة، يراد منها إفقاد الحوثيين ميزة التكيّف الاقتصادي مع الحرب، وتحويل الموانئ من مصدر قوة إلى نقطة ضعف.
وبينما يفتح هذا التحذير جبهة قانونية واقتصادية جديدة ضد الحوثيين، فإنه في الوقت نفسه يختبر جدية المجتمع الدولي في التعامل مع جماعة لم تعد فقط قضية يمنية، بل صارت ملفًا عالميًا في قلب معركة الأمن الإقليمي والتجارة الدولية.
هل يستجيب العالم للنداء الأميركي؟ أم أن الميناء سيبقى رهينة لعبة المصالح والواقعية السياسية؟ الأيام القادمة ستفصح عن المدى الحقيقي لقوة "التحذير الأميركي".