عدن.. بين الاحتجاجات والصفقات الغامضة: أزمة تتفاقم وصمت رسمي يُثير التساؤلات

تقارير

 

 

على إيقاع الغضب الشعبي، خرج عشرات المحتجين في مدينة عدن، مساء الإثنين، في تظاهرة جديدة، امتدادًا لموجة السخط التي تشتعل في شوارع المدينة منذ أسابيع، احتجاجًا على تردي الأوضاع المعيشية وانهيار العملة، في ظل حكومة تبدو كمن فقدت السيطرة على دفة الاقتصاد، وعجزت عن إعادة الرواتب إلى ما كانت عليه قبل 2015.

 

عناوين الأزمة تتكاثر، ومعاناة الناس تتفاقم، فيما تقف السلطة موقف المتفرج، كأنما يُرهقها حتى مجرد الاعتراف بالعجز.

فالموظفون الحكوميون، الذين طالما أُثقلوا بوعود الإصلاح، يواجهون واقعًا معاشيًا يزداد قسوة، فيما تواصل أسعار السلع الأساسية تحليقها الجنوني، دون أن يعترض طريقها سقف، أو يكبح جماحها إجراءٌ رسميٌ ناجع.

 

العبث بالممتلكات العامة.. صفقات في العتمة

 

وعلى وقع هذه الأزمة، تتواصل أعمال البناء في حوش مؤسسة النقل البري بمنطقة عبدالقوي، رغم الاحتجاجات المطالبة بوقف الاستحواذ غير القانوني على هذا المرفق الحكومي الحيوي. معلومات متواترة تتحدث عن صفقات تجري خلف الأبواب المغلقة، وعن استحواذ يتم بوتيرة متسارعة، وسط صمت رسمي يُقرأ منه أكثر مما يُقال.

 

مصادر كشفت عن عقد تأجير مثير للجدل، أُبرم لمدة 25 عامًا بين قيادات محسوبة على المجلس الانتقالي وأطراف غير معلنة، دون الرجوع إلى الجهات المختصة، ودون المرور عبر القنوات القانونية.

وبقدر ما يثير هذا العقد من تساؤلات، بقدر ما يفتح أبواب الشك حول طبيعة العلاقة بين متنفذين في السلطة ومساعي إحالة المرافق العامة إلى مشاريع خاصة.

 

ومرة أخرى، تتردد أسماء شخصيات مقربة من عيدروس الزبيدي كجهات تقف خلف هذه الصفقات، في مشهدٍ يعيد إلى الواجهة المخاوف من نهج التعدي على الأصول الحكومية، وتحويلها إلى غنائم، فيما يتابع المواطن العادي، الذي طحنته الأزمة، فصول هذا العبث، وهو يتساءل: إلى متى؟

 

الاحتجاجات تتواصل.. والسلطة تماطل

 

في ساحة خور مكسر، ارتفعت أصوات المحتجين مطالبةً بإعادة هيكلة المرتبات، وإيقاف نزيف العملة، ووضع حد لغلاء الأسعار، لكنّ الأذن الرسمية لا تزال صمّاء، فيما يعمد المجلس الانتقالي إلى امتصاص الغضب باجتماعات شكلية، تُعقد تارةً مع قيادات نقابية موالية له، وتارةً أخرى عبر خطابات تُكرر ذات العبارات المكرورة التي لا تُطعم جائعًا ولا تُطفئ لهيب أزمة.

 

الزبيدي.. خطاب متراجع ومشروع مأزوم

 

وفي محاولة لاحتواء السخط المتزايد، عقد رئيس المجلس الانتقالي، عيدروس الزبيدي، لقاءات مع قيادات نقابية انفصالية، مؤكدًا تبنّيه مطالب العمال، في تناقض صارخ مع واقعٍ هو نفسه جزءٌ من صناعته، بوصفه أحد أركان السلطة، وعضوًا في مجلس القيادة الرئاسي، وصاحب النفوذ الأوسع في الحكومة.

 

ظهر الزبيدي في خطابه الأخير مرتبكًا، مُحمّلًا بكثير من التناقضات، متحدثًا عن ضرورة “النضال السياسي” لتحقيق مطالب الجنوبيين، بعد أن كان بالأمس يهدد بالحسم العسكري. وفي تراجع لافت، بدا أكثر تصالحًا مع فكرة “الحوار الطويل”، متخليًا – وإن كان بعبارات ملتبسة – عن لهجة التصعيد، ما يعكس استيعاب المجلس لمتغيرات إقليمية ودولية، أدرك معها أن التلويح بالورقة العسكرية لم يعد مجديًا.

 

المعادلة الصعبة: السلطة والنقمة الشعبية

 

المجلس الانتقالي الذي يرفع شعار “استعادة الدولة”، يجد نفسه اليوم متورطًا في دوامة الأزمات التي كان يُحمّل خصومه مسؤوليتها بالأمس.

فبمشاركته في الحكومة، أصبح جزءًا من السلطة، لكنه يحاول أن يبقى في ذات الوقت في صفوف المعارضة، مستمرًا في تسويق رواية الانحياز للناس، في الوقت الذي يعجز فيه حتى عن تأمين أبسط الخدمات في المناطق التي يسيطر عليها.

 

في عدن، التي تغرق في ظلام الانقطاعات الطويلة للكهرباء، حيث يُشغَّل التيار ساعتين فقط مقابل عشر ساعات انطفاء، تبدو وعود الانتقالي بتحسين الأوضاع مجرد صدى لا أثر له على الأرض.

فوزارة الكهرباء والمحافظة تُدار من شخصيات محسوبة عليه، ومع ذلك لا يلوح في الأفق أي تحسن يُذكر، فيما تتردد أخبار عن فساد ينخر المؤسسات التي باتت تحت إدارته، لتُضاف إلى سلسلة الإخفاقات التي جعلت الصبر الشعبي يوشك على النفاد.

 

الانفصال.. ورقة تستخدم عند الحاجة

 

وفي محاولة للالتفاف على المأزق الاقتصادي، عاد الزبيدي مجددًا للحديث عن “مشروعه”، مؤكدًا أن “الانتقالي بات رقمًا صعبًا”، وأن “الانفصال أصبح واقعًا لا يمكن تجاهله”.

لكنّ المفارقة أن خطابه ذاته تضمّن إشارات إلى أن تحقيق هذا المشروع “يحتاج إلى وقت طويل”، ما يكشف عن إدراكه – وإن كان بين السطور – أن المسألة ليست بالبساطة التي يُروّج لها، وأن الوقائع على الأرض تُحتم عليه التراجع خطوة، ولو بلغةٍ مبطنة.

 

وبين خطاب الحماسة الموجّه للأنصار، والواقع السياسي الذي يُملي على الانتقالي البقاء في السلطة والمشاركة في الحكومة، يجد المجلس نفسه عالقًا في معادلة صعبة، حيث لا يمكنه أن يكون جزءًا من الحكم، ثم يتنصل من مسؤولياته، أو يطالب بحقوق الناس وهو نفسه أحد المسؤولين عن تردي أوضاعهم.

 

أفق الأزمة.. إلى أين؟

 

في عدن، حيث يتجدد الاحتجاج، وحيث تتراكم الأزمات، لا يبدو أن الأفق يحمل جديدًا. حكومة تواصل التخبط، ومجلس انتقالي يراوح بين السلطة والمعارضة، ومدينة تئن تحت وطأة الغلاء وانهيار الخدمات، بينما تستمر عمليات الاستحواذ على الممتلكات العامة في مشهدٍ يزيد النقمة ولا يُبشّر بأي حلول.

 

المحتجون الذين رفعوا أصواتهم في خور مكسر، يدركون أن وعود السلطة – بكل ألوانها – لم تعد تُغري أحدًا، وأن الأزمة تجاوزت حدود التصريحات والاجتماعات الشكلية.

في المقابل، تظل الكرة في ملعب السلطة، التي إن استمرت في تجاهل المطالب، فقد تجد نفسها قريبًا في مواجهة واقعٍ أشد إلحاحًا، وأبعد أثرًا مما تتوقع.