وأنت تتجول في شارعي تعز والعدين، حيث قلب الحركة التجارية في مدينة إب (وسط اليمن)، هذه الأيام، تواجهك محال تجارية مكتوب على واجهاتها معروض للبيع أو الإيجار، في مشهد غير مألوف في المدينة المكتظة بالحياة والتي توسعت شوارعها الحيوية بشكل كبير خلال سنوات الحرب التي نجت منها إب على عكس أهم المحافظات المحيطة بها.
قبل سنوات أو حتى الأشهر الأولى من هذا العام كان من المستحيل أن تجد محلا فارغاً في شارعي العدين وتعز بمدينة إب، ولإخلاء محل سيتحتم عليك دفع ملايين الريالات مقابل "نقل قدم" لصاحب المحل الذي كان يستأجره، غير أن الأمر بات الآن في المتناول بعد حالة ركود غير مسبوقة تشهدها أسواق مركز المحافظة ومدنها الثانوية.
الساعة الرابعة والنصف عصراً ـ وقت الذروة ـ بعض الأسواق والمحال التجارية في المدينة، تكاد تكون خالية من الزبائن، فيما يتسابق عليك الباعة الذين يشكون من توقف شبه كامل لحركة البيع وقلة المداخيل الأمر الذي يكبّدهم خسائر كبيرة مقابل إيجارات والتزامات العمال، ناهيك عن الاتاوات الحوثية التي لا تنقطع.
عوامل كثيرة تقف خلف حالة الركود التي تشهده المحافظة هذا الوقت من العام، وإلى جانب الظروف المعيشية الصعبة للمواطنين وانقطاع المرتبات والمساعدات النقدية من المنظمات للنازحين، وتراجع التحويلات النقدية للمغتربين، تبرز الجبايات الحوثية كأحد أبرز تلك العوامل.
حالة الركود هذه دفعت بكثير من المحال الصغيرة إلى الإغلاق وفي أحسن الأحوال إلى تأجيرها، فيما اضطر آخرون إلى تغيير أنشطتهم، أما تجار الجُملة فتشير المعلومات إلى أن عدد لا بأس به قد أغلق محاله التجارية وأعلن الإفلاس، فيما غادر آخرون المحافظة إلى محافظات أو دول أخرى.
ركود بعد طفرة
في الأعوام الماضية شهدت مركز المحافظة ومدنها الثانوية توسع كبير في بناء العقارات بالتزامن مع طفرة كبيرة في المشاريع الاستثمارية في قطاعات الصحة والسياحة (المطاعم ـ الفنادق ـ البوافي) والأغذية والملابس، وتوسعت الحركة التجارية في شوارع خلفية وأحياء حتى باتت إب قبلة للزائرين.
وتعود تلك الطفرة التي تزامنت مع حالات النزوح الكبيرة التي استقبلتها المحافظة، إلى وجود طبقة ذات رأس مال فرت من المدن التي تشهد حرباً كتعز وعدن والضالع والحديدة، أو من أولئك الفارين من الغارات الجوية التي تركزت في بداية الحرب في العاصمة صنعاء بشكل كبير.
ولأن المحافظة لم تشهد عمليات عسكرية تحولت إلى ملاذ آمن لكثير من رؤوس الأموال والكوادر اليمنية في مختلف المجال، وانعكس ذلك على الأرض حيث شُيدت المباني والمحال الفخمة وفتحت مئات المطاعم والفنادق والمراكز الطبية والمستشفيات فضلاً عن المجمعات والمولات التجارية الخاصة بالأغذية والملابس.
غير أنه وخلال العامين الأخيرين ومع دخول البلاد في حالة من الهدوء النسبي على المستوى العسكري، بدأت مؤشرات الركود في المحافظة تظهر بشكل أكبر، حيث شهدت العقارات حالة ركود كبير تبعتها الحركة العمرانية التي توقفت بشكل شبه كلي، غير أن ما تحول إلى حالة قلق هو حالة الركود التجاري السائد في المحافظة خلال الأشهر الأخيرة والتي دفعت بالكثير من التجار الكبار ـ نحتفظ بأسمائهم ـ إلى الإغلاق أو مغادرة المحافظة، ناهيك عن إغلاق عشرات المحال الصغيرة.
"عادل العديني" ـ صاحب بقالة ـ يصف الوضع القائم في المحافظة قائلاً: "هذه الأشهر موت سريري للحركة التجارية بوار قاتل ما باقي الا موت المواطن وقامت القيامة".
ويضيف في منشور آخر على حسابه في الفيسبوك، أن البلاد تعيش واقعاً مأساوياً.. فقر مدقع وانقطاع لمرتبات الموظفين وارتفاع معدلات البطالة وأزمة إنسانية ومعاناة يومية.
ويؤكد "العديني" أن الوضع بات لا يحتمل مؤكداً أنه بات يفكر بجدية بالغربة للعمل في أي مجال، غير أن ما يعيقه هو قيمة فيزا العمل.
من جانبه "أشرف" وهو صاحب بقالة في شارع غير رئيسي غرب مدينة إب، يؤكد أن الدخل اليومي من بقالته لم يعد يكفي للمصاريف اليومية له ولأفراد أسرته المكونة من سبعة اشخاص، ناهيك عن أجر العامل والالتزامات للموردين.
ويضيف في حديث لـ "يمن شباب نت"، "حركة البيع والشراء شبه متوقفة..تمر ساعة ولا يدخل المحل أحد"، مشيراً إلى أنه أصبح يضطر للفرار من الموردين الذين يتوافدون لتحصيل أموالهم، وبات يفكر في تأجير المحل والبحث عن فرصة عمل أخرى.
وفي اجابته عن أبرز الأسباب يختصر: "الناس مافيش بيدهم فلوس".
جبايات أثقلت كاهل التجار
تؤكد المعلومات التي تحصل عليها "يمن شباب نت" أن جبايات وابتزازات مليشيا الحوثي كانت العامل الرئيسي وراء حالات الإفلاس التي تعرضت لها عدد من المتاجر والمحال في محافظة إب بمختلف الأنشطة التجارية.
وبحسب تلك المعلومات التي تحصلنا عليها من عدة مصادر، أن المليشيا حولّت حالة الطفرة التي شهدتها المحافظة في النشاط التجاري إلى فرصة للنهب والفيد ورفع الإيرادات وقامت بابتزاز التجار حتى أعلن الكثير منهم إفلاسهم.
وأشارت المصادر إلى أن بعض القيادات الحوثية اشترطت على بعض التجار والمستثمرين الحصول على نسب ثابتة من الدخل مقابل افتتاح مشاريعهم، الأمر الذي حوّل تلك القيادات إلى شركاء من دون رأس مال، وبالتأكيد كانت لذلك تبعات قاسية على التجار.
"أبو محمد" ـ صاحب مجمع تجاري للملابس في شارع العدين ـ يتحدث بحسرة ملخصاً حالة نشاطه التجاري وهو يقف على حسابات محله التجاري الذي يوشك على الإفلاس: "احنا في مرحلة الاحتضار".
ويضيف في حديثه لـ "يمن شباب نت"، في هذا الوقت من كل عام تقل حركة البيع والشراء إلاّ أن هذا العام باتت الحركة شبه متوقفة، وهذا يعكس حالة القدرة الشرائية المتردية للمواطنين.
ويتابع: "في الأعوام الماضية نستقبل زبائن طوال أيام السنة بنسب متفاوتة من غير الموسم الذي يبدأ ذروته عادة من شهر رجب إلى نهاية رمضان، إلاّ أن هذا العام الحركة شبة متوقفة، أعلنا عن تخفيضات وعروض ولكن دون فائدة".
ويعزو "أبو محمد" ـ وهو اسم مجازي عن اسمه الحقيقي الذي فضل عدم الكشف عنه لدواعٍ أمنية ـ أسباب عزوف الناس عن الشراء لأسباب تتعلق بالوضع الاقتصادي السائد، حيث يعاني غالبية السكان من البطالة والظروف الصعبة، فضلاً عن تراجع التحويلات المالية للمغتربين لأسباب من بينها أن العديد منهم وخاصة الذين في السعودية استقدموا أسرهم إلى بلد المهجر.
ولا ينسى التاجر الحديث عن دور الجبايات الحوثية في حالة الكساد الحاصلة، موضحاً أن مليشيا الحوثي فرضت هذا العام ضرائب مضاعفة على الملابس المستوردة، الزيادة التي عكسها تجار الجملة عليهم كبائعي تجزئة، وبالتالي على المستهلك، مشيراً إلى أن بعض القطع ارتفعت قيمتها إلى الضعف وهذا ما لا يتحمل طاقته المواطن.
ويختم حديثه: "نحن على وشك نهاية العام وفي الوقت الذي نعاني من حالة الركود وننتظر بفارغ الصبر قدوم الموسم لتعويض خسائرنا، نصطدم بمتحصلي الضرائب والواجبات والتحسين، واتاوات المناسبات التي لا تتوقف"، مؤكداً أنه إذا لم يصل إلى تفاهمات مع تلك الجهات حول حجم المبالغ التي تريدها وطرق سدادها فإن ذلك سيكون المسمار الأخير الذي سيدق في نعش نشاطه"، حد وصفه.
الناشط البارز في إب، إبراهيم عسقين، هو الآخر سلط الضوء في تناولات عدة خلال الأيام الماضية عن ما آلت إليه الأوضاع التجارية في المحافظة نتيجة الجبايات الحوثية، قائلاً: "أن محافظة إب حاولت أن لاتخسر كثيرا منذ بداية الحرب حيث توجه أصحاب رؤوس الاموال اليها من المناطق التي طالتها الحرب ليفتتحوا مشاريعهم ومحالهم كونها آمنه ومستقرة وحدثت فيها حركة تجارية غير معهودة".
واستدرك: "لكن وين !! عند من !!..الحوثي وجماعته موجودين لكل ذلك بالمرصاد، لم يتركوا وسيلة ولا ذريعة ولا مسمى يتهبشون به كبار التجار والصغار منهم الا وسلكوه (ضرائب، واجبات، تحسين، جمارك، مجهود حربي، مولد نبوي، سياحة، مكتب الصناعة والتجارة، يوم الولاية، يوم الصرخة، دعم القوة الصاروخية، ذريعة دعم غزه، ذريعة دعم لبنان، حق سيدي حسن، حق سيدي حسين...).
وأوضح في تدوينة على تويتر، أنه ولنتيجة لذلك هرب الكثير من التجار، وأفلس بعضهم، وأقفلت مئات المحال والمطاعم والمخابز والبقالات والاسواق والمنشآت الأخرى أبوابها، وعُرضت أخرى للبيع والتقبيل والايجار، فيما تعجز عدد كبير من المحلات والمنشآت عن سداد الإيجارات.
ممارسات حوثية مدمرة
ولمعرفة أهم الأسباب والدوافع التي تسببت بحالة الكساد للعديد من القطاعات التجارية والخسائر التي تتكبدها الأسواق في محافظة إب كنموذج للمحافظات الخاضعة لسيطرة مليشيا الحوثي، من منظور اقتصادي، أكد الصحفي المتخصص في الشؤون الاقتصادية "وفيق صالح"، أن ذلك "يعود إلى تراجع الإنفاق الاستهلاكي بشكل كبير على السلع والخدمات من قبل السكان، نتيجة الاختلالات والممارسات المدمرة للأنشطة الاقتصادية من قبل مليشيا الحوثي".
وذكر متحدثاً لـ "يمن شباب نت"، أن "هناك معضلات معقدة يعاني منها الاقتصاد في مناطق الحوثيين أدت إلى اختلال الدورة النقدية"، مشيراً إلى أن انتهاج مليشيا الحوثي لسياسة الجباية وتخليها عن عملية الإنفاق ودفع الرواتب، قد ساهمت بتوسع دوائر الفقر والبطالة وتراجع الحركة التجارية اليومية والنمو الاقتصادي.
وأضاف: "الممارسات الحوثية المدمرة للأنشطة الاقتصادية لم تنعكس على وضع المواطنين فحسب، بل شملت حركة الأسواق، كون نهب رواتب الموظفين وعدم الإنفاق على الخدمات الأساسية قد أدى إلى شحة شديدة من السيولة لدى السكان، وهذا إجمالاً عمل بشكل كبير على تراجع حركة البيع والشراء وأدى إلى انتشار الكساد في الأسواق وألحق خسائر مادية بالعديد من الأنشطة التجارية".
واستطرد الصحفي صالح قائلاً: "بالإضافة إلى ما تعاني منه حركة السوق في مناطق سيطرة الحوثيين فإن المليشيات تفرض جبايات مالية مختلفة على المواطنين والتجار وبقية شرائح المجتمع، في ظل انعدم السيولة والقدرة الشرائية وغياب فرص العمل، وهذا يفاقم من حالة الكساد ويصيب الأسواق بشلل تجاري غير مسبوق".
وحذّر الصحفي الاقتصادي من أن تواصل موجة الكساد في مناطق سيطرة الحوثيين، وتوسع معدلات البطالة، وتراجع قدرة الأسر على تحمل أعباء تكلفة المعيشة، سيؤدي إلى "انتشار الأزمة الإنسانية وتضاعف آثارها وتداعياتها بشكل مدمر".
وختم تصريحه أن الحل الوحيد لوقف هذا الانهيار، هو توقف المليشيا عن هذه الممارسات التدميرية بحق الاقتصاد الوطني وعودة الدورة الاقتصادية إلى شكلها الطبيعي.