لا يستقيم الحديث عن الشعر اليمني في العصر الحديث، دون أن نستحضر صورة شاعرين أساسيين، ويمكن أن ننعت كلاً منهما بأنه كان شاعراً أُمةً، فقد بنى كلاهما المعنى الآخر لعمارة اليمن ثقافياً وجمالياً، وما زال مؤثراً بحضوره في كل الأزمنة، عدا الصورة المشرقة التي أعطياها لخصوصية الشعر اليمني في راهن الشعرية العربية: عبدالله البردوني وعبدالعزيز المقالح.
الأول جدد في عمود القصيدة التقليدية وأكسبها مُخيلة استثنائية، لكنه صنع لنفسه أسطورةً شخصيةً بسبب استبصارات عماه وتماهي الذائقة العامة معه.
أما الثاني فقد جدد في شعر التفعيلة وارتقى به. ومنذ باكورته الشعرية «لا بد من صنعاء» (1971) التي قال عبدالله البردوني عن صاحبها بأنه «أراد أن يبدو كبيراً منذ البداية» نذر المقالح نفسه لتجديد روح اليمن شعرياً وثقافياً، وعلى هدي بصيرته الوقادة توهجت هذه الروح في المحافل سنين عدداً.
لكن أي رؤيا، وأي حلم، وأي مدىً بقي لهذا الرائي، وقد انهارت الرموز والأساطير، واستحالت مشاتل الروح أنقاضاً؛ بل أي قبر يسع النشيد العظيم ويأسه من الكلمات؟ لكن الأمر يكاد يتحول عند جيل الشعراء الجدد إلى ما يشبه (الحجاب)؛ ولهذا لم يكفوا منذ تسعينيات القرن العشرين عن كتابة نص شعري في أكثر صوره رفضاً للسائد والمحلي، ونزوعاً نحو أفق الحداثة والتجريب، نتيجة انفتاحهم على مرجعيات ومؤثرات جديدة، واتصالهم القريب بالمحيط الشعري العربي، واستثمارهم لوسائل التواصل الاجتماعي العابرة للحدود، على نحو ساهم في رفع سقف ما يكتبونه راهناً.
ومع ذلك، يمكن للمتتبع أن يلمس تعايش الأشكال الشعرية وتجاورها على مستوى الإنتاج والتلقي معاً.
غير أنه بسبب البنية القبلية للمجتمع اليمني، ما زال الشعر يؤدي دوراً خطيراً، يصل إلى حد تماهيه مع متطلبات المخيلة الشعبية، وعرام خطابها الحماسي.
ومن جهة، يعيش حالة استقطاب حادة تحت تأثير الحرب وأجواء الصراع السياسي والأيديولوجي، ما ألقى مطالب إضافية على كاهل الشاعر، وحول القصيدة في أحايين كثيرة إلى منبر خطابي وسجالي يحتشد بالشعارات الجماهيرية.
لكن لا بد من صنعاء الجمال والفن، وإن طالت الحرب.
وفي السبعينيات والثمانينيات قطع الشعر اليمني شوطاً مهماً في ميدان التحديث، حيث أسهم استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في بروز جيل من الشعراء أكثر نزوعاَ نحو الحداثة والتجريب، واتساع الأفق وخصوصية العبارة.
أحمد الفراصي: قصيدة «اليمن السعيد»
تكاد تجمع آراء من يؤرخون للشعر اليمني، على أن العزلة التي كان يعيشها اليمن بفعل نظام الحكم الإمامي شمالا، والاحتلال البريطاني جنوبا انعكست سلبا على الشعر، إذ لم يكن للشعر اليمنى شأن يذكر آنذاك، حيث كان الشعراء منذ مطلع القرن العشرين يقصرون قصائدهم على المدح والرثاء والتهانين والتأريخ للمواليد والوقائع المهمة، وظل الشعر حتى أواخر الثلاثينيات صدى لتلك البيئة الراكدة، وما تعكسه من جوانب العزلة والجمود.
ونظرا لما أفرزته الحرب العالمية الثانية من وعي على مختلف الأصعدة الفكرية والسياسية والاجتماعية في البلدان العربية؛ إلا أن تأثيرها بقي محدودا في شمال اليمن نظرا لنهج السلطة الإمامية السياسي، الذي آثر العزلة عن العالم.
بعكس الشطر الجنوبي، الذي شهد في أوائل الأربعينيات بوادر نهضة فكرية وأدبية، أسهم في انبثاقها إنشاء الجمعيات الأدبية، وإصدار الصحف، والاقتراب من مصر والسودان، بابتعاث بعض الباحثين إليها، الأمر الذي مَكن من الاطلاع على تجارب الأدباء والشعراء في مختلف الأقطار.
بيد أن الأمر سرعان ما تغير في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، إذ شكلت الستينيات منعطفاً مهماً في مسار الشعر اليمني الحديث، خاصة بعد ثورة سبتمبر/أيلول 1962 ضد الحكم الإمامي شمالا، وثورة أكتوبر/ تشرين الأول 1964 ضد الاحتلال البريطاني جنوبا، حيث كان للشعراء دورهم الرائد في إذكائهما من خلال ما أذاعوه من قصائد تعرضت للأحداث السياسية والاجتماعية، التي عاصروها وانفعلت بها نفوسهم.
وفيها ظهر تأثرهم بحركة الإحياء والبعث التي كانت رائجة في الأقطار العربية آنذاك، تجلى ذلك في عنايتهم بقوة الأسلوب وإحكام النسج وجزالة العبارة وفخامتها، ومعارضاتهم لكثير من القصائد المشهورة للشعراء القدامى، وتركيزهم على استلهام التراث القومي، وتصوير المعاناة على المستوى الفردي والجماعي.
ويمثل هذه المرحلة عبدالله البردوني، ومحمد محمود الزبيري، ومحمد عبده غانم، وزيد الموشكي، وغيرهم.
وفي الفترة نفسها ألقت الرومانسية بظلالها على الشعر اليمني، إذ كان لوجود عدد من الشعراء في مصر ولبنان والسودان، الأثر الواضح في هذا الاختيار، وفيها حاول الشعراء الانتقال بالقصيدة من التقليدية الصارمة إلى الانفتاح على قاموس الشعراء الرومانسيين العرب، بوصفه طريقة في التعامل مع اللغة وتركيب الجملة الشعرية، وبناء الصورة.
فأصبحت نصوصهم أكثر قرباً من ذواتهم وعواطفهم الذاتية، في مزيج خاص بين الوجداني والصوفي.
ومن الأسماء البارزة في هذا التيار: عبدالعزيز المقالح، وأحمد محمد الشامى، وإبراهيم الحضراني، ولطفى أمان، والقرشي عبدالرحيم سلام، وعبدالله سلام ناجي، وحسن اللوزي وعبدالودود سيف، وزكي بركات ومحمود الحاج، ومحمد أنعم، وعبده عثمان، وغيرهم.
واستطاع هؤلاء أن يخطوا للقصيدة الحديثة مسارها الذي أخذ شكلاً متصاعداً، وأفرز في نهاية الستينيات تجريب كتابة قصيدة النثر، ومن أبرز ممثليها: عبدالرحمن فخري.
ويمسك الشاعر عبد الله البردوني بالخيط الرومانسي ذاته، لكنه يتجه به منحى آخر، ويقترب به من الواقعية، إذا جاز القول، وتبدأ قصائده تتخذ هموم الناس وقضاياهم موضوعات لها، ويبدأ الشاعر نقداً ساخراً للسياسة والمجتمع.
وإن كانت القصيدة عنده تظل محافظة على الشكل التقليدي، مكتفية بتجديد الأفكار والمضامين.
وفي السبعينيات والثمانينيات قطع الشعر اليمني شوطاً مهماً في ميدان التحديث، حيث أسهم استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في بروز جيل من الشعراء أكثر نزوعاَ نحو الحداثة والتجريب، واتساع الأفق وخصوصية العبارة، وإن كانوا يتجهون مشارب شتى، سواء في استلهام التراث واستيعاب رموزه وتطويعها لخدمة الرؤى النصية، أو استخدام العبارة الصوفية ودلالاتها، أو في محاكاة التجارب الشعرية العربية الحداثية.
فظهرت حينئذ قصيدة النثر بشكل أكثر وضوحا واكتمالا، وانتشرت قصيدة التفعيلة انتشارا واسعا، بالإضافة إلى محافظة بعض الشعراء على الشكل التقليدي للقصيدة، مع تنويع في الرؤى والمضامين.
وكان الثراء الفني في تلك الأشكال واضحا، نتيجة تطور المفاهيم الشعرية ونشاط الحركة النقدية الموازية، الأمر الذي جعل نتاج تلك المرحلة أكثر قربا من تجليات الحداثة الشعرية في مختلف الأقطار.
ويمثل هذا الجيل كل من: إسماعيل الوريث، محمد حسين هيثم، شوقي شفيق، عبد الكريم الرازحي، وعباس الديلمي، وسعيد البطاطي، وعبد الرحمن إبراهيم، ونجيب مقبل، ثم أحمد العواضي، ومحمد عبدالسلام منصور، وغيرهم.
وكان لهذه المرحلة تأثيرها الواضح على شعراء التسعينيات إلى نهاية القرن العشرين، وإن كانوا فيها أكثر إقبالا على تبني الجديد، ورفض المألوف من الشعر، وتجريب مناخات أكثر جدة للصورة والمعنى نتيجة الانفتاح إلى مرجعيات ومؤثرات جديدة، خاصة في ما يتصل بقصيدة النثر والقصيدة المدورة.
تنوعت الإصدارات الشعرية وشملت مختلف أشكال الشعر قديمه وحديثه، وإن شاب بعض نماذجها الغموض والإبهام.
يمثل هذه المرحلة عدد من الأسماء مثل: علوان الجيلاني، علي المقري، هدى أبلان، محمد المنصور، محمد القعود، نبيلة الزبير، آمنة يوسف، الحارث بن الفضل، أحمد السلامي، عبد الوهاب الحراسي، تلاها أصوات جميل مفرح، علي جاحز، فتحي أبو النصر، نادية مرعي، عبدالمجيد التركي، وغيرهم.
أما مرحلة بداية الألفية الثالثة فهي ذات خصوصية شعرية تستلزم دراسة منفردة لرصد تحولاتها، لاسيما وأنها ما تزال في طور التشكل والصيرورة، وتعد بالكثير من الرؤى.
أحمد السلامي: قضايا الراهن الشعري
لا نستطيع النظر إلى راهن الشعر اليمني من زاوية حادة، تهدف فقط إلى استشراف تحولات فنية كبرى، تفترض حدوث قطيعة مع الماضي.
لا نستطيع قراءة التجربة على هذا النحو، لأن الصورة في اليمن تبقى مؤطرة بتعايش الأشكال الشعرية وتجاورها، على المنصة وفي منابر النشر، وأيضاً على مستوى التلقي.
قد تبدو ظاهرة التعايش الشعري سائدة في بلدان عربية أخرى، نظراً لاستمرار الكتابة داخل الأشكال كلها.
لكن التعايش الذي يحدث في اليمن مؤسس على توازي حضور النماذج، التي ترسخت في الواقع وفرضت نفسها. فالبردوني حامل لواء القصيدة الكلاسيكية من حيث شكلها العمودي؛ لا يزال مؤثرا بحضوره العابر للمحلية.
لقد تسبب صوته القوي والمختلف في اكتساب قصيدة العمود مرجعية استثنائية. الأمر الذي أسهم في عدم غياب هذا الشكل أو تراجعه إلى خانة هامشية.
مع الفارق بالطبع بين استنساخ العمود الشعري، ونفخ الروح فيه، من بوابة الحفاظ على الشكل، وتجربة البردوني الذي تمرد داخل هذا القالب التقليدي لكنه خرج بمضمون شعري مغاير.
في المقابل هناك قصيدة التفعيلة التي رسخها عبدالعزيز المقالح وآخرون منذ السبعينيات. ولهذا الشكل رصيد متراكم ومدعوم بصدى عربي حاضر في الذاكرة السمعية، ولا يزال هناك من يكتبون داخل هذا الشكل، الذي يطغى عليه تحويل القصيدة إلى أداة لموسقة الكلام، دون تقديم إضافة تتصل بالرؤية الشعرية بشقيها الجمالي والفلسفي.
نأتي إلى قصيدة النثر والكتابة الشعرية خارج الوزن، وهذا الشكل الأحدث لم يحصل على مساحة في الخريطة الشعرية اليمنية، إلا بعد مرور عقود من الزمن، وليس كما حدث في مشاهد أخرى.
لكن حتى قصيدة النثر كان عليها في النهاية ـ أعني الآن- أن تصل في المشهد اليمني إلى ما وصلت إليه قصيدة التفعيلة من تعايش مع العمود، كأن هذا أعلى سقف لدينا: لا يمكن عزل اليمن كذلك عن محيطه الجغرافي، البلد المحاط بدول نفطية، لم يسلم بعض شعرائه الشباب من الاستجابة في بعض السنوات لذلك النمط من الاحتفاء بالشعر، أعني به ذلك النمط الذي يؤدي إلى توجيه مسار الكتابة الشعرية نحو استعادة أشكال تقليدية.
الاعتراف والاعتراف الآخر كان على شعر النثر أيضاً مواجهة إشكالية الحضور وسط بيئة ترفل بالغناء والإيقاع.
بمعنى أن ما تحقق للنص الشعري الجديد من اعتراف يندرج ضمن التعاطي الإكراهي مع شكل لم يعد من الممكن تجاهله.
فأصبحت منابر النشر ومنصات الفعاليات تتعامل مع شعر النثر بكثافة منذ تسعينيات القرن الماضي.
ومع تزايد الشعراء الشباب الذين يتعاطون مع قصيدة النثر، تحقق لها منجز الاشتراك في ميزة التجاور والتعايش مع الأشكال السابقة.
ليبقى التمايز داخل الأشكال كلها، رهن الاختلاف عن المنجز السابق والتموضع في المشهد بنبرة جديدة.
وهذا ما تحققه بعض الأسماء الشابة، وإن كانت أزمة التكرار واستنساخ التشابه تضع أكثر من جيلين أمام رهان أصعب؛ لأن قصيدة النثر مطالبة أكثر من الأشكال القديمة بإنجاز ولادات لانهائية، حتى لا تقع في مأزق الاستقرار.
والآن هناك من يكتبونها في أبهى تجلياتها، وهناك من يدور حولها بأمزجة غنائية، ولا أنسى من حاولوا العثور على إيقاع للنثر وثقوا به، وظنوا أنه يمثل قاعدة ذهبية للقصيدة المكتوبة خارج الوزن لتبرير تراكمها على منوال واحد.
تجاور الأشكال الشعرية في اليمن، له أيضا ما يوازيه في الواقع العام على المستويات كافة. نحن نحكي عن بلد لم يقطع صلته بالبنية التقليدية للمجتمع.
إذ لا تزال القبيلة تنتج فنونها، وتلجأ بدورها إلى الشعر، كما لو أنه آلة حربية.
من هنا نجد أن القصيدة الشعبية لا تزال حاضرة، بل محمولة على أكتاف ألوان من الأداء الحماسي، ما يجعلها تتسلل إلى عاطفة المجتمع، لتتحول إلى سلاح فني صاخب، يحصر الشعر الحديث المتعالي عليها في زاوية استهلاك محدود، بحيث لا يضاهي ما تنتجه المخيلة الشعبية.
ختاماً، لا يمكن عزل اليمن كذلك عن محيطه الجغرافي، البلد المحاط بدول نفطية، لم يسلم بعض شعرائه الشباب من الاستجابة في بعض السنوات لذلك النمط من الاحتفاء بالشعر، أعني به ذلك النمط الذي يؤدي إلى توجيه مسار الكتابة الشعرية نحو استعادة أشكال تقليدية.
قامت بهذا الدور برامج المسابقات التلفزيونية، التي اتخذت من الشعر موضوعاً لها، حتى في اليمن قبل الدخول في متاهة الحرب الطويلة، جرى استنساخ تلك البرامج في الإعلام، وأثرت في تصور العديد من المواهب الشابة وفي رؤيتها لماهية الشعر، حيث تحولت القصيدة في وعي الجمهور وبعض الشعراء إلى جسر للشهرة، وجني الجوائز المكرسة لإحياء روح البداوة، لكن الحرب خدمت القصيدة الجديدة، وأعاقت نمو نظرة شعبوية كانت قد بدأت تغزو الذائقة وتغري بعض الموهوبين بالاستجابة لها، سعياً وراء نجومية سهلة ومربحة.
أنقذت الحرب راهن الشعر في اليمن، لأنها أيضاً وضعت الجيل الشاب وجها لوجه أمام وسائل التواصل الاجتماعي العابرة للحدود، وذلك أسهم في دفع من يكتبون الشعر إلى التماهي مع سقف ما ينشر عربيا.
ومن الواضح أن النشر على شبكات الإنترنت خدم مجموعة من الأسماء اليمنية الشابة، التي طورت علاقتها بالشعر وصعدت من جديد، براهن الشعر إلى نقطة لم نبلغها من قبل إلا في التسعينيات، عندما اضطر شعراء ذلك الجيل إلى خوض معارك مع الأجيال السابقة لفرض تجاربهم.
بينما اضطر شعراء الجيل الأحدث خلال السنوات الفائتة إلى خوض معارك مع أنفسهم، من أجل التغلب على التفكير الشعري التقليدي المغوي، وصولاً إلى استحضار تجاربهم عبر فضاءات الإنترنت، بالتوازي مع غيرهم من الشعراء العرب، وإن كانت الجزر المنعزلة لا تزال تحافظ على خصائصها وأشكالها الشعرية حتى في العالم الافتراضي.
يمكننا قراءة حاضر الشعر اليمني، وتوصيفه نقديا، والوقوف على أهم الحيثيات والمؤثرات التي جعلت منه حِجاجياً بامتياز، ومنبرا خطابيا مزدحما بالشعارات الجماهيرية، ما جعل المباشرة والتقريرية السمتين المهيمنتين على لغة القصيدة.
عبد الغني المقرمي: هل هو ارتدادٌ شعري؟
يمكن القول إن المشهد الشعري في اليمن في لحظته الراهنة يعيش حالة استقطاب حادة، فرضتها أجواء الصراع السياسي، الذي تحول في السنوات السبع الأخيرة إلى صراع عسكري مثقل بالتباينات الفكرية والسياسية، الأمر الذي جعل التخندق الفكري والأيديولوجي حالة شبه حتمية على المثقفين اليمنيين بشكل عام، والشعراء منهم بوجه أخص.
باستثناء القليل من الشعراء الذين نأوا بأنفسهم عن هذه التجاذبات، وانسحبوا منكفئين على ذواتهم، ولم يعد لهم صوت يُذكر.
في هذا الإطار، يمكننا قراءة حاضر الشعر اليمني، وتوصيفه نقديا، والوقوف على أهم الحيثيات والمؤثرات التي جعلت منه حِجاجياً بامتياز، ومنبرا خطابيا مزدحما بالشعارات الجماهيرية، ما جعل المباشرة والتقريرية السمتين المهيمنتين على لغة القصيدة.
ونتيجةً لتسيد هذه الخطابية الموقفية مع أو ضدا؛ فقد ارتفعت أسهم القصيدة العمودية، ونشط سوقها، باعتبارها الإناء الأكثر اتساعا لأساليب الحِجاج، ولمختلف الشعارات التي تتطلبها حالة الهتاف والحماس الجماهيري.
ويأتي هذا الحضور القوي للقصيدة العمودية على حساب الأشكال الشعرية الحداثية، كقصيدة النثر وما بعدها، حيث صمتت هذه الأشكال صمتا مريبا، بينما بقيت قصيدة التفعيلة تشارك على استحياء، وبشكل جد محدود.
واللافت أن جل شعراء القصيدة العمودية هم من جيل الشعراء الشباب، كعبد الإله الشميري، ويحيى الحمادي، وزين الضبيبي، وعبدالعزيز الزراعي، ووليد الشواقبة، بينما استأثرت قصيدة التفعيلة بمن يمكن تسميتهم بكهول الشعراء كعبد العزيز المقالح ومحمد عبدالسلام منصور.
وتجدر الإشارة إلى سببين آخرين عززا من مكانة القصيدة العمودية لدى جيل الشباب؛ يتمثل أولهما في تلك المشاركات الواسعة التي يخوضها هؤلاء الشعراء في المنافسات والجوائز الشعرية المحلية والعربية، كجائزة المقالح وجائزة رئيس الجمهورية محلياً، أما عربيا فجائزة العويس، وجائزة البابطين، ومسابقة أمير الشعراء، التي فاز يمنيون بالمركز الأول في دورات سابقة منها، وكل هذه الجوائز والمنافسات تعلي من شأن النص العمودي على حساب القوالب الشعرية الأخرى.
أما السبب الثاني فيتمثل في ذلك التأثير الواسع الذي تركه الشاعر الراحل عبدالله البردوني في الشعر اليمني المعاصر، حيث مثّل حالة شعرية فريدة ومتميزة على المستويين اليمني والعربي، واستطاع رغم بقائه في النمط العمودي أن يجدد في لغة القصيدة وفي مضامينها الشعرية، ما جعل اجترار تجربته أو التحليق في فلكها مشتركا فنيا لدى جل الشعراء الشباب إن لم يكن كلهم.
كاتب مغربي