في البدء كانت مارب وفي الختام ستكون مارب، نبوءة مستوحاة من التاريخ. فالتاريخ الذي بين أيدينا مسند بالمسند والسد وبالنقوش والآثار وبالإنسان الذي أثبت أن ألاف السنين لم تستطع ثنيه عن هدفه ومواصلة المسير نحو حلمه الأبدي المستوحى من واقع الدولة والحضارة التي هندسها اليمنيون القدامى، هناك بالقرب من الشمس بعيداً عن الغزاة لصوص الطيوب حول محرم الأسرار السبئية حيث كانت تمتد مزارع اللبان التي صنعت التاريخ، قبل أن تعرف البشرية كتابة التاريخ، هناك تقع مارب تعويذة اليمنيين الأبدية.
قد يفاجئنا التاريخ مرات أخرى عن وجود بشري في أرض اليمن الكبير، لكننا إلى الآن ونحن في بدء العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين لم نجد سردية بانورامية مكتملة لتاريخ الدولة اليمنية القديمة غير ما خلدته لنا سبأ في مارب.
وأنا أقلب أكوام تاريخنا المبعثر لفتت ناظري معلومة مغامرة الرومان في 24ق.ب حين وصلوا إلى مارب وابتلعتهم الصحراء اليمنية، ولم يجد "سترابو" مؤرخ حملة الامبراطور الروماني "أغسطس" والتي قادها "اليوس جاليوس" غير الحديث عن المرض والموت الذي أصاب جيش الرومان الذي حاصر مارب لستة أيام كسبب للهزيمة، ولم يذكر كيف سيج اليمنيون مارب بمقاتليهم مدافعين عنها أمام هذا الغزو الأول لهذه الأرض، بالإضافة إلى ما يجري اليوم من هجوم "أبناء الأبناء" المدعومين من الفرس هو ما دعانا في مركز يمنيون للدراسات لإقامة ندوة: "مارب.. قراءة في العراقة والحضارة وامتداد الأدوار التاريخية المجيدة" في 27 فبراير الماضي.
يومها كانت أخبار انتصارات مارب تملأ أنفسنا بالعزة والكرامة والفرح الممزوج بحزن عميق بسبب نبأ استشهاد القائد اليمني الكبير عبد الغني شعلان ورفاقه وهم يحرسون مجد سبأ وجمهورية الشعب اليمني العظيم، تقبلهم الله من فادون كبار عرفوا الطريق إلى الخلود، فساروا بلا التفات أو وجل.
مأرب تستحق كل التضحيات، وليس أمام أبطالنا هناك سوى منع اجتياح التاريخ والحضارة والإنسان والجمهورية التي تمثل مارب اليوم رمزاً لبقائها.
مارب ليست مجرد مدينة ولا مجرد عاصمة تاريخية ولا مجرد جبهات صد للعدوان، بل مدونة التاريخ اليمني، وموطن الدولة اليمنية الواحدة، وتمثل اليوم رمزاً للبسالة والشجاعة والكرامة اليمنية، وعلى أسوارها ينتحر الذين تصدرهم إيران لاجتياحها، ويمارس اليوم أبناء الأبناء حماقة لم يقع فيها حتى أجدادهم الذين قدموا باسم الفرس لغزو اليمن، مكتفين بعدن وصنعاء مناطق لنفوذهم في الجزيرة والعربية، ولم يجرؤوا على إعادة تجربة الرومان في محاولة غزو مارب - مع أنهم وصلوا اليمن بعد ستة قرون من وصول الرومان- والعاقل من اتعظ بغيره، ويبدو أن أبناء الأبناء أيضاً يتناسون أن جدهم الرسي الذي قدم إلى اليمن عام 899م ومن أتى معه وبعده من الفرس والديلم ومدعي الهاشمية السياسية لم يصلوا لمارب لصعوبة الوصول إلى تعويذة اليمنيون الأزلية.
وأنا هنا لا أخاطبهم لفرط جهلهم بالتاريخ والجغرافيا ولمضيهم خلف علوج الفرس الذين يبحثون عن موطئ قدم في اليمن، بل أخاطب أهل اليمن ممن عرفوا الحرية والكرامة وما زالوا يكافحون لإرساء دعائم دولتهم اليمنية.
مارب اليوم تدافع عن اليمن الكبير، وعن الجمهورية اليمنية، عن الجزيرة العربية، وعن الأرض التي وضع معالمها وحدودها أبو الحسن الهمداني في كتابه "صفة جزيرة العرب" موطن اليمنيون الأول الممتد في كل أرجاء هذه الجزيرة المترامية الأطراف.
كما أن معركة مارب هي معركة كل يمني حر، وكل عربي أصيل ينتمي لليمن أينما كان موطنه اليوم داخل وخارج حدود جزيرة العرب وشمال وشرق أفريقيا وأينما انتشرت الثقافة اليمنية العربية الأصيلة.
واليوم تسطر مارب ملحمة تاريخية اختلطت فيها القبيلة بالدولة بالجيش بكل الأحرار من كل أرجاء الجمهورية، وهي تدافع عن التاريخ والهوية والجمهورية وعن الوجود اليمني الأزلي في هذه الأرض الطيبة، فمعركة اليوم جمهورية خالصة على خطى الشهيد القائد على ناصر القردعي، ووفقاً لمبادئ الجمهورية التي خطها القائد علي عبد المغني، وسار على خطاها القادة عبد الرب الشدادي وعبد الغني شعلان.
وتمثل مارب فيها بوابة النصر اليمني الكبير، وقادسية العرب الثالثة، وفيها تكتب بداية التاريخ اليمني الجديد، كما كتبت أولى نقوشه فيها قبل بداية التاريخ.
في الندوة التي استدعينا فيها التاريخ ليعلم حماة الجمهورية ومارب أنهم بنضالهم وتضحياتهم هناك يعيدون كتابة التاريخ وفقاً لرؤية يمنية خالصة على نفس منهجية صناع التاريخ والحضارة والدولة في اليمن، ولسنا سوى شهود على حركة التاريخ التي عادت بأيديهم وتضحياتهم في مارب.
أردنا أيضاً إعادة نظر كل اليمنيين نحو مارب موطنهم الأول وأساس الدولة والحضارة والوحدة والتاريخ والنقوش والأثار والهوية، وليست مجرد منطقة نائية كما كان يعرف عنها للأسف في العقد الأول من القرن الحادي العشرين، وهي تشكل اليمن القادم وتعيد تشكيل خارطة القوى الاجتماعية والسياسية وتعيد تشكيل العقل اليمني، وليست مجرد ساحة حرب، فهي ساحة استقرار وتنمية وتقدم نموذجاً فريداً في التعايش والشراكة والمقاومة والحرية وحتماً ستقدم الكثير للأمة اليمنية.