غادرت الأردن الشقيق قبل أيام، وانتهت مهمتي هناك، سفيرا لبلادنا الحبيبة، وآمل أنني قد وُفِّقت في تمثيل بلادي وخدمة مواطنيها بأفضل ما يمكن في ظل ظروف غاية في التعقيدات والصعوبات، أبرزها انهيار الدولة على أيدي الغزاة الحوثيين وما ترتب على ذلك من تدخلات خارجية فاقمت التدهور والإنهيار أكثر، ونتج عن ذلك غياب استقلال القرار الوطني والإرادة الوطنية، وما نجم عنه من تبعات تلقي بظلالها على كل المواقع والمؤسسات في الداخل والخارج، ومن ذلك السفارات بطبيعة الحال.
وما أصعب أن تكون سفيرا لبلادك في ظل وضع شبيه بما عليه حال بلادنا اليمن، في هذه الحقبة من تاريخها. وعادة فإن وضع البلد والدولة؛ قوةً وضعفاً؛ وحدة ًوتشرذماً، ينعكس على دور السفارة والسفير.
وبسبب وضع بلادنا فقد واجهتنا صعوبات جمة ومشاكل شتى. ولا تقتصر الصعوبات والمشكلات على وضع السفارة في الأردن، بطبيعة الحال، وإن كانت السفارة في الأردن من أكثر السفارات معاناة، بل أكثرها في جوانب معينة.
وأتذكر أن عدداً من الزملاء الذين تعينوا معي سفراء كانوا: يقولون، عندما أقسمنا اليمين، الله يعينك ويقولون كلاما يتضمن ما يشبه الشفقة والتخويف مما هو قادم! فعلقت وقلت: كأن هذا عزاء بدلاً عن المباركة! والصعوبات لا تكمن في الأردن العزيز كبلد جميل ورائع، وإنما باعتبار الأردن وجهة رئيسية لليمنيين في ظروف استثنائية ومتغيرات هائلة تخص اليمن، وأمور أخرى مثل التعيينات ذات الطبيعة الفوضوية المربكة التي لا تخضع لأي معيار وظيفي أو منطقي، وما يترتب على ذلك من إشكالات وإعاقات.
كنت اعرف عن الأردن الكثير قبل قدومي إليها سفيراً، وعرفت الأردن أكثر بعد ما أمضيت فيها أكثر من ست سنوات. وكثيرا ما طرأَت على البال، أفكار وانطباعات وخواطر، عن الأردن وأهله وما هو جدير به من تقدير واحترام، وغالباً ترددت في التعبير عن ذلك، فقد تكون شهادتك مجروحة وأنت ما تزال تقيم بين ظهراني الأردن العزيز وأهله الكرام.
والحقيقة فإن من يتعرف على الأردن، سيتبين له أنه أمام شعب عربي محترم يتميز بالشهامة والمروءة والكرم، وأن كلمة النشامى، تنطبق تماماً على هذا الشعب العربي الأصيل.
أما قيادة الأردن، فلعل الشعب الأردني محظوظ بها بحق، وهي قيادة تجمع بين العطف والحزم والواقعية والتواضع، والقرب من الناس. وقبل عقود، عندما كنت طالباً في الجامعة، وكان يدور الحديث عن بلد بعيد، هي تايلند، التي كانت تتعرض لاضطرابات حينها، فقال أحد الأساتذة الأمريكيين؛ ملك تايلاند يحظى باحترام كبير من قبل شعبه، مثل الملك حسين في الأردن، ويعني ذلك أن المشكلات قد لا تذهب بعيداً في تايلند حينها، بسبب دور الملك ومكانته هناك، وتبين لي مع الزمن ما الذي يعنيه كلام الاستاذ الأمريكي، وما الذي تعنيه طبيعة علاقة الشعب والقيادة في الأردن.
وفي بداية التسعينات كتبت الصحف الأمريكية كثيرا عن الملك حسين-الذي لم يكن على وفاق مع القيادة الأمريكية حينها- واتذكر مقالاً* نشر في التايم الأمريكية، حينذاك، بقلم الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، قال فيه إن الملك حسين الزعيم الأكثر مصداقية في الشرق الأوسط، ومقال آخر بعنوان؛ The least Monarchy Monarch وتعني أنه العاهل الأكثر بساطة وتواضعًا وديناميكية، ويمضي الملك عبدالله الثاني على نهج والده، ولعله أفضل زعيم عربي يجيد مخاطبة الغرب، وتفعل الشيء ذاته الملكة رانيا العبدالله في مثل خطابها الأخير، في 3 فبراير 2023 ، خلال الغداء الدولي في العاصمة واشنطن، والخطاب موجود على صفحة الملكة في الفيس بوك .
وقيادة الأردن نموذج في دماثة الخلق والأدب والإحترام. وبقدر ما يخاطب الأردنيون الملك عبدالله بكلمة سيدنا، فإنه يخاطبهم هو أيضا بكلمة سيدي وسيدتي. ولفت نظري، عند تقديم أوراق الإعتماد، مخاطبة الملك عبدالله، وهو الحازم، عندما يتطلب الأمر، لوزير خارجيته، لو سمحتوا يا ناصر إفعلوا كيت وكيت، فيما يخص العلاقات اليمنية الأردنية.
بحكم التحديات والمخاطر المحيطة بالأردن منذ نشوء الدولة الأردنية، فإن قيادة الأردن لا تعرف الاسترخاء، ولذلك صمدت الأردن وتجاوزت التحديات و المخاطر، وعلى الرغم من كثرة التحديات والمخاطر، فإن ذلك لم يمنع الأردن من التطلع لأن تكون نموذجا في المنطقة، وقال الملك حسين في كتابه "ليس سهلاً أن تكون ملكاً" : نريد أن نكون نموذجا يُحتذى في المنطقة.وأظن أن لدى هذا البلد العربي الطيب، الأردن؛ الكثير مما يمكن التَّعلُّم منه. ويكفي أنه صار قبلة للتطبيب والعلاج من قبل بلدان عربية كثيرة، وهذا من ثمار التنمية البشرية وبناء الإنسان الأردني التي ركز عليها الأردن بنجاح منذ عقود.
تعرض الأردن وقيادته على مر العهود لاستهدافات كثيرة، منذ اغتيال الملك المؤسس عبدالله الأول في يوليو 1951، ومحاولات انقلاب ومحاولات اغتيال أخرى عديدة لاحقة، وحتى محاولات اغتيال الشخصية، character assassination في مراحل من تاريخه، وعانى من ذلك الأردنيون كثيراً، ولكن الأردن نجا ببراعة قيادته والتفاف شعبه، ولا بد أن الأردنيين يحمدون الله اليوم على سلامة بلدهم من الانقلابات العسكرية، التي عرفتها بلدان عربية أخرى، وتفاقمت أوضاعها، الى حال مؤلم ومحزن، ومنها بلدان مجاورة وقريبة.
وتحرص قيادة الأردن أن تكون على مسافة واحدة من جميع مواطنيها بمختلف أديانهم ومذاهبهم وأصولهم، والمناصب المهمة العليا ليست حكراً على الأكثرية المسلمة، سنية أو من أصول أردنية، ويصل إلى المناصب العليا أشخاص وكفاءات من الأقليات في الأردن، واتذكر تساؤل واستغراب أحد وزرائنا الزائرين، حول تولي وزير أردني منصباً كبيرا حساساً وهو من أقلية صغيرة في الأردن.
ويساهم أبناء القبائل في قيادة الدولة والمجمتع في الأردن، بعد أن تمكنوا من الالتحاق بالتعليم العالي في الأردن وخارج الأردن، ولم يُتركَوا نهباً للجهل والصراعات والثارات فيما بينهم مثلما كان الحال عندنا في اليمن في فترات سابقة، فما بالك بالحالة الان. وأتذكر أنني علقت على حالة التهميش والتحريش بين القبائل في بلادنا، في أغسطس 2013 رداً على سؤال للأستاذ عبدالباسط القاعدي، ونحن في طريقنا من البيضاء إلى صنعاء يومذاك، عن سبب ما يجري في قبيلة قيفة الرداعية البيضانية. وكتب الأستاذ عبدالباسط، معلقاً على الحالة،مقالاً، حينذاك بعنوان التهميش والتحريش!
ولعل براعة الأردنيين وقيادتهم تكمن في أنهم حققوا إنجازات كبيرة في مجالات شتى وخاصة بناء الإنسان الأردني وأنهم نجوا من الإنقلابات والاضطرابات والإنهيارات والفوضى، وهم لا يملكون الثروات والنفط، لكن عدم امتلاك الثروات والنفط، لا يعني عدم امتلاك العقل والحكمة وحسن التصرف وسلامة التدبير، كما وصف دبلوماسي عربي من زملائنا. وشاهدت أحد شيوخ الأردن الكبار ، وهو يرحب بالملك حسين وهو يزور الشيخ داخل بيته، ويقول للملك : أنت نفطنا وغازنا وثروتنا! وتعبر مثل تلك الزيارة عن مفهوم The least Monarchy Monarch حيث من المألوف في الأردن أن يزور الملك المواطنين إلى منازلهم، بما في ذلك البسطاء منهم.
اليمن واليمنيون قريبون من قلب الأردن قيادة وشعبًا، وقال رئيس مجلس النواب الأردني السيد أحمد الصفدي : جلالة الملك عبدالله يحب اليمن كثيراً، و عندما يحب الملك أي بلد فإننا نحبها أكثر وأكثر. وقال الملك عبد الله وهو يعلق على علاقة الملك حسين باليمن، كانت اليمن في قلبه.
وفي آخر لقاء بالأمير المتميز، الحسن بن طلال، قال لي : اليمن في قلبي دائمًا، "وأنت بالذات"! وفي لقاء سابق مع سمو الأمير الحسن، قال : لليمن مكانة خاصة في قلوبنا.وأضاف : جدتي من اليمن، ويقصد جدة الشريف الحسين بن علي، قال ذلك وهو يشير الى صورة جده في الجدار المقابل.
كان لليمنيين وضع خاص في الأردن قبل اندلاع الحرب، في 2015 ، ويدخلونها دون تأشيرة، ولا تُطلَب منهم إقامة، وتغير الوضع بعد اندلاع الحرب.وعندما طرحت الأمر على وزير الداخلية السابق، سلامة حماد، وسألته متى يعود اليمنيون لوضعهم في الأردن كما كان من قبل، فيما يخص الإقامة والتأشيرة، فقال : عندما تعود اليمن كما كانت، سيعود كل شيء كما كان!
والحقيقة فليس اليمنيون وحدهم الذين تغير وضعهم في الأردن، وإنما كل البلدان التي تعاني من الحروب والاضطرابات الأمنية. وعلى الرغم من مصالح الأردن الحالية الكثيرة مع جارهم العراق، فما تزال الجنسية العراقية مقيدة أيضاً مثل اليمنيين.
وبعد انقطاع سنوات، وبمتابعة حثيثة من السفارة، أُعيد توقيع البروتوكول الثقافي وقدمت الأردن بموجبه 40 منحة دراسية سنوياً ، لليمن دون ما يقابلها منح من اليمن كما كان سارياً من قبل، وفقاً للبروتوكول . وما تزال الأردن تقدم منحاً علاجية سنوية مجانا لليمن، وقد زادتها مؤخراً بعشرين منحة، عما كانت عليه، لتبلغ الآن المائة منحة.
أودَّع الأردن الآن ؛ ويبقى الأردن في القلب إلى الأبد، كما هي الجالية اليمنية العزيزة في القلب أيضاً وفي رعاية الأردن النبيل قيادةً وشعباً، وفي القلب كذلك الخيرين من رجال الأعمال اليمنيين المقيمين في الأردن ، الذين كان لوقفتهم أثناء جائحة كورونا الأثر الكبير، في نجاح السفارة, في التعامل مع الجائحة والعالقين والعاطلين، ولن يغيب عن البال والقلب زملائي الأعزاء دبلوماسيين ومحليين، الذين لولا جهودهم المتميزة ما كان ممكنًا تجاوز الصعوبات والتحديات الكثيرة..فللجميع التحية والتقدير والإحترام .
وارجو المسامحة من أي تقصير ومن أي إساءة إن حدثت لأي أحد ، اثناء زحمة الأعمال والضغوط الكثيرة.
مودتي للجميع؛ وحفظ الله اليمن وحفظ الله الأردن.
————————————
*كنت اتولى ترجمة تلك المقالات عندما كنت في وزارة المالية في بداية التسعينات!