منصة الطابور تتحول إلى محكمة: قصة عبيده وامتحان الكرامة في عمران

عامة

 

في زمن المليشيا الحوثية، يصبح الصباح المدرسي مساحة أخرى للوجع، وتتحول براءة الطابور الصباحي إلى مسرح تُختبر فيه كرامة الناس، لا قدرات الطلاب. هناك، في محافظة عمران، مديرية عيال سريح، في منطقة سحب، وتحديداً في مدرسة الشهيد صالح الرحبي، حدثت قصة لا تشبه قصص المدارس.. بل تشبه زمن الجماعة التي جعلت التعليم ممراً للإذلال.

في صباح الأربعاء 3 ديسمبر 2025، اصطف الطلاب كعادتهم في ساحة المدرسة. نادى المدير مهدي حسين على الطالب عبيده مجاهد راجح، طالب الصف الثامن، طفل من قرية عمد في عيال سريح، ابن طبيب عرفه أهل المنطقة بما يقدمه لهم: لقاحات، وعلاج، الانسولين، ودواء الضغط، وغيرها. طبيب لم يطرق بابه أحد إلا وجد العناية، بمن فيهم مدير المدرسة نفسه.

ظن عبيده أن تفوقه الأكاديمي هو سبب النداء، وأن منصة الإذاعة المدرسية تنتظره ليعوض غياب صف آخر.

صعد الطفل إلى المنصة ببراءة من يذهب ليتسلم دوراً مشرفاً، لا صفعة معنوية.

لكن المدير لم يسأله عن دروسه، بل رماه بسؤال هابط: “عبيده.. ايش يشتغل ابوك؟”

أجاب الطفل بصدق: “ابي دكتور.”

هذا الأب الذي كان سنداً لأبناء المنطقة، والذي لم يعرف التمييز، يصبح فجأة هدفاً للاستهزاء. ابتسم المدير بسخرية لا تشبه اخلاق المربين وقال: “قصدك جاسوس صح؟” ثم تابع: “ذلحين ابوك بيحاكموه.. متى بيصدر الحكم؟”

ضحك بعض الطلاب.. وضاع وجه الطفل وسط صدمة لا يعرف لها اسماً.

نزل عبيده من المنصة باكياً، يحمل حقيبته كمن يحمل هزيمته الأولى. عاد إلى البيت بوجه مصفر، عيناه تعلنان ما عجز لسانه عن قوله. دخل غرفته، رفض الأكل والكلام والبوح.

وعندما اقترب منه أخوه، لم يخرج من الطفل إلا جرح صامت قاله بصوت مكسور: “لو انت تعزني.. سير اسحب شهادتي من المدرسه.. واسمح لي اوقف الدراسه.”

هذا الطلب لم يكن تمرداً على التعليم، بل هروباً من قسوة رجل تجرد من صفات المعلم.

ثم قال عبيده ما يكشف حجم الألم: “ابي ضحى بكل شي عشاني.. كان يشجعني على دراستي حتى وهو في السجن.. اول اتصال له بعد ستة اشهر سأل عن درجاتي.”

كيف يصبح التعليم الذي كان مصدر قوة الأب.. بوابة انكسار الابن؟ وكيف تتحول مدارس محافظة عمران إلى ساحات لإسقاط الأطفال بدلاً من رفعهم؟

هذه ليست مجرد حادثة فردية. إنها مرآة لبلد صار فيه السؤال عن الأب فخاً، والطالب محاسباً على تهمة لم يرتكبها، والتعليم أداة لتصفية حسابات سلطة ترى في التفوق تهديداً، وفي الأطفال مادة للترهيب.

رسالة إلى مدير المدرسة المدعو مهدي حسين: هل هذه اخلاقك؟ وهل الطالب محاسب على ما افتروا به على والده؟ هل بلغت بك الدناءة أن تجرح طفلاً أمام زملائه؟  

في زمن كهذا.. لا ينكسر الأطفال لأنهم ضعفاء، بل لأن الكبار صاروا أصغر من أن يكونوا مربين.