علمتني الحياة

 

 

نبذة عن حياة الشاعر محمد مصطفى حمام  

واحد من الشخصيات النادرة التى ظهرت فى الساحة الأدبية المصرية فى أوائل القرن الماضى، فهو من مواليد 18 أغسطس 1906 وتوفى فى 23 مارس 1964، ولقد كان الكاتب الكبير عباس محمود العقاد يستدنيه من مجلسه ويقول: هذا كتاب من الشعر والأدب والفكاهة والفن، لا يجد الناس منه إلا نسخة واحدة. وقد قال عنه العوضى الوكيل: الندوة التى يحضرها حمام يملأ زمنها كله، ولا يكاد يترك لغيره فرصة للحديث، والناس يعجبون لرجل يروى الأشعار لكل شاعر ومن كل عصر، والطُرَف والنوادر والفكاهات من كل زمان ومن كل مكان، ويتحدث فى النحو فإذا هو سيد الموقف، يجلو دقائقه ويحقق حقائقه، وإذا انتقل الحديث إلى القرآن والحديث كان حاضر الجواب جميل الخطاب، مع أنه لم يدخل الأزهر ولم يختلف إلى مدرسة من مدارس الدين. فقد بدأ حمام تعليمه فى مدرسة فارسكور الابتدائية، وتروى ابنته عزيزة أن السلطان حسين كامل قد زار فارسكور وألقى حمام قصيدة ترحيب به أثناء زيارته للمدرسة، وكان فى ذلك الوقت تلميذا بالصف الثالث الابتدائى، فأهداه ساعة ذهبية فاخرة نُقِشَ عليها الإهداء وتاريخه، وتولى السلطان حسين كامل الإنفاق عليه فى مراحل التعليم، واستمر الأمر كذلك فى عهد فؤاد الأول حتى قامت ثورة 1919، وقد كان الأزهريون يحملون حمام على أيديهم ليهتف لهم، فحرمه السلطان من الرعاية،لكن حمام قد تمسك بمساندة الثورة وبدأ العمل بالصحافة والأدب وهو فى سن الثالثة عشرة لينفق على نفسه. وقد حصل حمام فى نهاية المطاف على شهادة البكالوريا، واستطاع أن يحصل بها على وظيفة وفرت له قدرا يسيرا من الرزق الذى كان راضيا قانعا به على الرغم من بؤسه وشقائه. ويَرْوِى حمام أنه قد احتاج إلى خمسة جنيهات، فأخذ يطوف بالأصدقاء والأدباء يوما كاملا حتى تمكن من اقتراضها، وحين مضى بها ذاهبا إلى بيته أمسك بها بين يديه وهو يعبر كوبرى قصر النيل فأطارتها الريح من يده إلى النهر، ووقف حمام ينظر مبهوتا وحوله طائفة من الناس تتأمل هذا المشهد العجيب. وقد كان حمام صاحب موهبة شعرية خاصة، ويمكن أن تقول إن شعره كله يدخل فى دائرة الارتجال، لأن القصيدة الطويلة كانت لا تأخذ كتابتها منه أكثر من ساعة واحدة من الزمن، ثم تبقى لديه كما هى دون تعديل أو تبديل إلا النزر اليسير النادر.

 

علمتني الحياة

محمد مصطفى حمام

 

عـلَّـمـتـنـي الحياةُ أن أتلقّى   كـلَّ ألـوانـهـا رضـاً وقبولا

ورأيـتُ الـرِّضـا يـخفِّف أثقالـي ويُـلقي على المآسي سُدولا

والـذي أُلـهـم الـرِّضا لا تراهُ أبـدَ الـدهـر حـاسداً أو عَذولا

أنـا راضٍ بـكـل مـا كتب الله ومُـزْجٍ إلـيـه حَـمْـداً جَزيلا

أنـا راضٍ بـكل صِنفٍ من الناسِ لـئـيـمـاً ألـفيتُه أو نبيلا

لـسـتُ أخـشـى من اللئيم أذاه لا، ولـن أسـألَ الـنـبيلَ فتيلا

فـسـح الله فـي فـؤادي فلا أرضـى مـن الحبِّ والوداد بديلا

فـي فـؤادي لـكل ضيف مكان فـكُـنِ الـضيفَ مؤنساً أوثقيلا

ضلَّ من يحسب الرضا عن هَوان أو يـراه عـلـى الـنِّفاق دليلا

فـالـرضا نعمةٌ من الله لم يسعـد بـهـا في العباد إلا القليلا

والـرضـا آيـةُ البراءة والإيمـان بالله نـاصـراً ووكـيلا

* * *

عـلـمـتني الحياةُ أنَّ لها طعـمَـيـن، مُـراً، وسائغاً معسولا

فـتـعـوَّدتُ حـالَـتَـيْها قريراً وألـفـتُ الـتـغـيير والتبديلا

أيـهـا الـناس كلُّنا شاربُ الكأسَـيـن إنْ عـلقماً وإنْ سلسبيلا

نـحـن كالرّوض نُضْرة وذُبولا نـحـن كـالـنَّجم مَطلعَاً وأُفولا

نـحـن كـالـريح ثورة وسكوناً نـحـن كالمُزن مُمسكاً وهطولا

نـحـن كـالـظنِّ صادقاً وكذوباً نـحـن كـالحظِّ منصفاً وخذولا

* * *

قـد تـسـرِّي الحياةُ عني فتبدي سـخـريـاتِ الورى قَبيلاً قَبيلا

فـأراهـا مـواعـظـاً ودروساً ويـراهـا سـواي خَـطْباً جليلا

أمـعـن الناس في مخادعة النّفسِ وضـلُّـوا بصائراً وعقولا

عـبـدوا الـجاه والنُّضار وعَيناً مـن عـيـون المَهَا وخدّاً أسيلا

الأديـب الـضـعيف جاهاً ومالاً لـيـس إلا مـثـرثـراً مخبولا

والـعـتـلُّ الـقويُّ جاهاً ومالاً هـو أهـدى هُـدَى وأقـومُ قيلا

وإذا غـادة تـجـلّـت عـليهم خـشـعـوا أو تـبـتّلوا تبتيلا

وتَـلـوا سـورة الـهـيام وغنّوهـا وعـافـوا القرآن والإنجيلا

لا يـريـدون آجلاً من ثواب الله إنَّ الإنـسـان كـان عـجـولا

فـتـنـة عـمّـت المدينة والقريـةَ لـم تَـعْـفِ فتية أو كهولا

وإذا مـا انـبـريتَ للوعظ قالوا لـسـتَ ربـاً ولا بُعثتَ رسولا

أرأيـت الـذي يـكـذِّب بـالديـن ولا يـرهب الحساب الثقيلا

* * *

أكـثـرُ الناس يحكمون على النا س وهـيـهات أن يكونوا عدولا

فـلـكـم لـقَّـبوا البخيل كريماً ولـكـم لـقَّـبـوا الكريم بخيلا

ولـكـم أعـطَـوا الملحَّ فأغنَوا ولـكـم أهملوا العفيفَ الخجولا

ربَّ عـذراء حـرّة iiوصـموها وبـغـيٍّ قـد صـوّروها بتولا

وقـطـيـعِ الـيدين ظلماً ولصٍ أشـبـع الـنـاس كـفَّه تقبيلا

وسـجـيـنٍ صَـبُّوا عليه نكالاً وسـجـيـنٍ مـدلّـلٍ تـدلـيلا

جُـلُّ مـن قـلَّـد الـفرنجة منا قـد أسـاء الـتـقـليد والتمثيلا

فـأخـذنـا الخبيث منهم ولم نقبـسِ مـن الـطـيّبات إلا قليلا

يـوم سـنَّ الـفرنج كذبةَ إبريلَ غـدا كـل عُـمْـرنا إبريلا

نـشـروا الرجس مجملاً فنشرناهُ كـتـابـاً مـفـصَّلاً تفصيلا

* * *

عـلـمتني الحياة أنَّ الهوى سَيْـلٌ فـمـن ذا الذي يردُّ السيولا

ثـم قالت: والخير في الكون باقٍبـل أرى الخيرَ فيه أصلاً أصيلا

إنْ تـرَ الـشـرَ مستفيضاً فهوِّن لا يـحـبُّ الله الـيئوس الملولا

ويـطول الصراع بين النقيضَيـنِ ويَـطوي الزمانُ جيلاً فجيلا

وتـظـلُّ الأيـام تعرض لونَيْهـا عـلى الناس بُكرةً وأصيلا

فـذلـيـلٌ بالأمس صار عزيزاً وعـزيـزٌ بـالأمس صار ذليلا

ولـقـد يـنـهض العليلُ سليماً ولـقـد يـسـقـطُ السليمُ عليلا

ربَّ جَوعانَ يشتهي فسحة العمـرِ وشـبـعانَ يستحثُّ الرحيلا

وتـظـلُّ الأرحـامُ تـدفع قابيلاً فـيُـردي بـبـغـيـه هابيلا

ونـشـيـد الـسـلام يتلوه سفّاحـون سَـنُّوا الخراب والتقتيلا

وحـقـوق الإنـسان لوحة رسّامٍ أجـاد الـتـزويـر والتضليلا

صـورٌ مـا سرحتُ بالعين فيها وبـفـكـري إلا خشيتُ الذهولا

* * *

قال صحبي: نراك تشكو جروحاً أيـن لـحن الرضا رخيماً جميلا

قـلـت أما جروح نفسي فقد عوَّدْتُـهـا بَـلـسَـمَ الرضا لتزولا

غيرَ أنَّ السكوتَ عن جرح قومي لـيـس إلا الـتقاعسَ المرذولا

لـسـتُ أرضـى لأمـة أنبتتني خُـلُـقـاً شـائـهاً وقَدْراً ضئيلا

لـسـتُ أرضى تحاسداً أو شقاقاً لـسـتُ أرضى تخاذلاً أو خمولا

أنـا أبـغي لها الكرامة والمجـدَ وسـيـفـاً على العدا مسلولا

عـلـمـتني الحياة أني إن عشتُ لـنفسي أعِشْ حقيراً هزيلا

عـلـمـتـنـي الحياةُ أنيَ مهما أتـعـلَّـمْ فـلا أزالُ جَهولا